الوسنانة، وترقع الرياض ما بلى من كسائها بالحشائش الحواء، وتوشيه بالأزهار اليانعة العبقة الشذى
وهاهي ذي ذكاء صفراء عليلة، غب احتجاجها الطويل، ثم تتواري في خدرها بعد هنيهة، ثم تبدو أثبت قدماً وأربط جأشاً. وتحاول السماء أن تتجرد من ثياب الشتاء القاتمة الغليظة، فتمزقها إرباً إرباً، فتظهر أجزاء من أديمها الأزرق الصافي خلال بردها المهلهل الخلق
وهرع أهالي لندن إلى العراء ليشهدوا آخر معركة بين التوأمين الربيع والشتاء
وجاءتني ربة الدار فرحة متهللة، مشرقة الطلعة، كأنما نفث الربيع فيها من سحره، فغدا وجومُها بسمات، وحديثها ضحكات فحيت تحية كأفواف الزهر، ثم تغنَّت بفتنة الطبيعة في ديارها إبان الربيع، فحسبتها قمراً يُرَجِّع على فنن دوحة تميس في الحبر السندسية البديعة، أو مِزْهر عازف يوقع أنشودة الجمال الرائع؛ ثم قالت:
- حذار أن تظل جلس بيتك في مثل هذا اليوم النادر، فمسرح الطبيعة عندنا جم المناظر، تارة يلفظ شُواظاً من نار فتقبع المخلوقات في دورها، وتارة يبتسم ابتسامة الرضا فينسى الناس فترات تجهمه، فيعدون إليه بقلوب يستخفها الطرب، ويتملكها العجب. إن أشعة الشمس في بلادنا نفيسة كالذهب الوهاج، يتهافت عليها الناس ويدخرونها لأوقات يربدُّ فيها وجه السماء، وما أكثرها حتى في هذا الفصل الذي تخطر فيه الدنيا في حلة قشيبة من النّوْر، وتتنفس فيه الرياض عبيرَ الأقحوان النَّدّ، والياسمين والورد
- لقد حدثتِ فأطربت، ووصفتِ فأطنبتِ، فهل لكِ أن تهديني إلى أي الحدائق أبهج للفؤاد، وأجلى لصدى النفس، وأمتع للنظر؟
- إن لندن يا سيدي مدينة تزخر بألوف الألوف من البشر، مترامية الأطراف، واسعة الجنات، فسيحة الرقعة تتمثل فيها الحياة العاملة المجدة، والحركة الدائبة النشطة في أوجها؛ ترى قُطُر الكهرباء تجري فيها رائحة غادية، في سراديب تحت الأرض، وعلى قضب فوقها؛ وترى أسراب السيارات تجوب أرجاءها ألوفاً ألوفاً، فمنها ذوات الطبقتين كأنها بواخر تمخر عباب اليم، ومنها القميئة التي تنساب في الطرقات انسياب الصِّلال وسط الإحراج والأدغال؛ والناس فيما بين ذلك يهرولون زرافات ووحداناً، كأنما الحياة الدنيا قد أفلست وعرضت ذخائرها، وهم إلى الغنيمة يهطعون ولهم ضجيج يفزع الكواكب في