وحري بنا ونحن نتنفس هواء قد أفسدته الصناعة، وأنفاس الخلق، أن ننشئ الرياض العريضة الرحبة، تخُطُّها البحيرات الجميلة الجذابة، ففيها نستجم من نصب العمل والحياة المضنية، وإليها نهرع إذا ضاقت صدورنا، وكادت أرواحنا تزهق من حر أنفاسنا. ولكل روض خاصة: فإذا نشدت الهدوء والعزلة، والمنظر الخلاب البهيج، فدونك (الريجنت)؛ وإذا شئت أن تدرس طباع الشعب عن كثب، وتشهد صراع الفكر، وخطباء النَّدى، والجموع الغفيرة، والحرية المطلقة، فدونك (هايدبارك)؛ وإن كنت مولعاً بالتلال المعشبة، والرُبى الخضراء، والوهاد الفسيحة، والطبيعة الساذَجة الغفل التي لم تصقلها يد البشر، فأعمد إلى (هامستدهيث)؛ وإن كنت مغرماً بدرس النباتات وأنواعها المختلفة وأشكالها المتباينة، فعليك بحدائق (كيو) حيث يمثل فيها نبات الدنيا جمعاء. وهناك رياض أخرى لا تقل رونقاً وبهاءً وحسناً ورواءً عما ذكرت
- لقد شدت - يا سيدتي - بمدينتك فخورة مُدِلة، ولا غرو، فأنتم أمة لم تنس نصيبها من متع الدنيا وزخرفها. فها هي ذي لندن، قد تجَّلت في مبانيها سلامة الذوق والانسجام البديع، وحفت طرقها بالأشجار، وزينت منازلها بالحدائق الصغيرة سيان في ذلك بيت الأمير وبيت الحقير. وإني لنصيحتك جِدُّ مطيع، ولك مني ثناء عطر جزاء وفاقاً على ما أتحفتني به من حديث ممتع طريف؛ فمعي صباحاً، وإلى اللقاء. . .!
ذهبت إلى (هايدبارك) وها أذنا ألج ساحتها المزدحمة
يا عجباً هنا منابر وخطباء، وهنا جموع محتشدة تنصت وتنتقد وتجادل تسخر وتحتد؛ وعلى كل منبر رَق مرقوم، يفصح عن الفكرة التي يدعو إليها الخطيب أو ينافح عنها. والناس ينتقلون من حلقة إلى أخرى كأنهم زُمَر النحل، تقتطف من كل زهرة قطرة؛ حتى يقعوا على ما يَلَذ لهم حديثه، فيرهفون السمع ويعملون الفكر ويجادلون المتكلم أحرَّ جدال
هاك شيوعياً يبسط للناس مبادئ عقيدته، ويلوم في حدة وسلاطة وعنف، هؤلاء الذين اكتنزوا الذهب والفضة واستعبدوا بهما الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؛ وأخذوا يَنعمون بأطايب الحياة، ويبعثرون النضار في سبل الفسق، بينما يَغضص المجتمع بقوم يبيتون على الطوى ويندبون جَدَّهم العاثر، وزمنهم الغادر. ويدعو بكل ما أوتي من ذرابة لسان،