للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

خصب هو الشباب، وبمقدار قوتها وتلاؤمها تكون قوة الشباب، وبمقدار نقصها تكون الشيخوخة، فالشباب موجب والشيخوخة سالبة، والشباب إقدام والشيخوخة إحجام، والشباب نصرة والشيخوخة هزيمة

وإذا كان الناس قد اعتادوا أن يصطلحوا على علامات للشيب والشباب حسب تفسيرهم الباطل فإن لنا علامات أخرى على تفسيرنا الصحيح

لقد جعلوا الرأس موضع أهم الإمارات، فسواد الشباب وبياض المشيب أكثر ما دار عليه القول في الشيخوخة والشباب، وهو مركز القول في ذلك عند الأدباء والشعراء، حتى ألفوا في ذلك الكتب الخاصة من أشهرها كتاب (الشهاب في الشيب والشباب) جمع فيه الشريف المرتضى تسعة وثلاثين بيتاً في الشيب لأبي تمام، ومائة وأربعين للبحتري، وثلثمائة وأربعة عشر للشريف الرضي، وأربعمائة وثلاثة وستين للمرتضى، وستة وأربعين لابن الرومي. وقد التفت مؤلف هذا الكتاب في مقدمته إلى فكرة جليلة، ولكنه لم يحسن تعليلها، قال: (إن الإغراق في وصف الشيب والإكثار في معانيه، واستيفاء القول فيه، لا يكاد يوجد في الشعر القديم، وربما ورد لهم فيه الفقرة بعد الفقرة، فكانت مما لا نظير له، وإنما أطنب في أوصافه واستخرج دفائنه والولوج إلى شعابه الشعراء المحدثون)

وعلة ذلك في نظري أن الحياة في الجاهلية وصدر الإسلام لم تكن غالية، كانت تتطلب المجد وتسترخص الموت، غير أن المجد في الجاهلية كان مجد الذكر وحسن الأحدوثة والخوف من العار وإتباع التقاليد، وكان في الإسلام ذلك، وعند بعضهم الاستشهاد في سبيل الدعوة وبيع النفوس لله برضاه وجنته، فليست الحياة تستحق البكاء الطويل عليها. أما في العصر العباسي فكانت أشبه بحياة الرومانيين؛ من أهم أغراضها اللهو واللعب، ومن أهم أغراضها القرب إلى النساء والتحبب إليهن، وذلك يستدعي حب الحياة؛ فنذير الموت وهو الشيب بغيض إلى النفس، والنساء يكرهن الشيب فيجب أن يكره، ويعيرن به فيجب أن يبكى، ويمدحن الشباب ويحببنه فيجب أن يرثى. لهذا كثر القول في الشيب في العصر العباسي وما بعده، وقل فيما قبله

أما علامات الشباب والشيخوخة في نظريتنا: فليس موضعها الرأس، إنما موضعها القلب، فاليائس شيخ لأن اليأس ضعف في الإرادة وضيق في الخيال، وبرودة في العاطفة، والشيب

<<  <  ج:
ص:  >  >>