بالقسط في كل كبيرة وصغيرة، حتى تعمّ النصَفةُ القويَّ والضعيف، والنصير والمخالف، والمحبّ والمبغض؛ وتقوم للأمة حكومة يحمل كل واحد فيها قانوناً في الخلق، يكفل ألا يحيد قيد شعرة عن القانون الذي في الورق؛ ويتنزّل فيها المثل الصالح من الرؤساء إلى من دونهم حتى يشعر كل عامل أنه يتلقى العدل من فوقه يوحيه إلى من دونه، وأنه حين يعدل لا يتبرع ولا يمن على أحد، وإنما هو الحق والواجب لا محيد عنهما ولا مفر منهما، ولا يسع الأمر غيرهما؛ وحتى لا يُقضي في أمر إلا بما يقضي به عمر بن الخطاب لو عرض هذا الأمر عليه، لا محاباة ولا حيف ولا هوادة؛ القويّ ضعيف حتى يؤخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى يؤخذ الحق له؛ وحتى يكون العامل الصغير في أقصى الأرض نائلاً آمناً عليه، كالحاكم الكبير في دواوين القاهرة؛ وحتى ييأس أكبر الموظفين وأقرب المقّربين من المحاباة يأس أصغرهم وأبعدهم. لكلٍّ حقه، وعلى كل واجبه، وفوق الناس جميعاً قانون الأمة وعدل الله - الجهاد الأكبر الذي يذهب بهذه المساوئ البادية في أنفسنا وأجسامنا وأزيائنا وطرقنا وأنديتنا ودواويننا ودورنا، والذي يأخذ الأمة بيد رحيمة حازمة لتوفي به على النجاة غير مبالية بصيحات المرضى الذين يكرهون الدواء، والمفسدين الذين ينفرون من الإصلاح الخ الخ.
لست أقول إن أمتنا ابتليت بالشر والفساد من بين الأمم، ولكنني أريد لها أن تكون (خير أمة أخرجت للناس) وأن تصير مضرب المثل بين الأمم في أخلاق أفرادها، ونظم جماعاتها، وسعادة أولادها.
سيقول الضعفاء: هذا مطلب عسير! وأنا أقول إنما تَطمح عزائمنا إلى المطالب العسيرة، وإنما يكافئ هممنا لمقاصد البعيدة. وسيقول الذين في قلوبهم زيغ: هذا هذيان! وينسون أن هذا الهذيان تنطق به القوانين كلها. فإن لم يكن عملنا مصدقا قوانيننا فما جدوى هذه القوانين؟. ليس في الأمر عسر، وليس في الأمر هذيان، ولكنه حق يسير إذا برئت النفوس من يأسها، وخرست الألسن عن هذيانها؛ وحسبنا أن يقوم على رأس الأمة (عُمر) واحد يضرب المثل ولا يتهاون في إنفاذه فإذا الناس كلهم رغبةً ورهبة يقتدون به، ويحاول كل منهم أن يجعل نفسه عُمَر آخر. إن نفوس هذه الأمة معمورة بالخير، وإنما أضرّ بنا أن رفعت في كنف العدو رايات للشر انحاز إليها كل شرير، وأشفق منها كل خير فازداد