المعروفة أن معظم الكتب والوثائق المذهبية التي وضعت في هذا العصر قد دثرت ومحت معالمها يد الدول الخصيمة، ولم نتلق عن هذه الدعوات السرية سوى قليل من الرسائل والشذور التي نقلها إلينا بعض المؤرخين المتأخرين. على أن هذه الوثائق لقليلة التي انتهت إلينا تلقي مع ذلك شيئاً من الضياء على طبيعة هذه المبادئ والأقوال الخفية التي عمل الدعاة الفاطميون كثيراً لبثها، والتي بعثت في عصرها إلى أصول الإسلام الحقيقية كثيراً من سحب الزيغ والريب
ومن هذه الوثائق غريبة من الرسائل الفلسفية الكلامية تحتفظ بها دار الكتب المصرية، وهي متنوعة في موضوعها، ولكنها متحدة في أسلوبها وتدليلها وغايتها؛ ويبدو من تلاوتها لأول وهلة أن موضوعها إنما هو جزء من الدعوى السرية الفاطمية، وأنها كتبت في أواخر عصر الحاكم بأمر الله، وأنها حسبما يدعي كاتبها قد وضعت بوحيه وإرشاده، وأحياناً بالتلقي عنه. أما كاتبها فمن هو؟ في معظم هذه الرسائل يقدم لنا هذا الداعية الغريب نفسه، ويذكر لنا اسمه وهو (حمزة بن علي ابن احمد) وهو اسم قلما تذكره سير العصر، ولا تقدم لنا أي تعريف شاف عن صاحبه، وكل ما نعرفه أنه فارسي من مقاطعة زوزان، وكان عاملاً يشتغل بصنع اللباد، وفد على القاهرة حوالي سنة ٤٠٥هـ وانتظم بي الدعاة، وخاض غمار الجدل الديني الذي كانت تضطرم به مصر يومئذ. ومما تجدر ملاحظته أن معظم الدعاة والملاحدة الذين خرجوا على الإسلام وحاربوه باسمه ينتمون إلى أصل فارسي؛ بيد أنا نستطيع أن نعرف من هذه الرسائل كثيراً عن شخصيته وعن مهمته؛ فهو بلا ريب من أكابر الدعاة السريين الذين اتصلوا بالحاكم بأوثق الصلات، وتلقوا وحيه، وبثوا دعوته، وكان لهم أكبر النفوذ في التوجيه الخفي لكثير من مسائل العصر؛ وسنرى حين نعرض إلى مهمته الحقيقية والى رسائله الغربية أنه يقدم لنا نفسه أيضاً في صفة النبوة، ويصف لنا بعض أعماله بالمعجزات
ولدينا من هذه الرسائل مجموعتان: إحداهما فتوغرافية نقلت عن مخطوط محفوط بالعراق، والثانية خطية، وقد اقتنتها دار الكتب أخيراً، والمجموعة الأولى أكبر وأعم من الثانية، وبها كثير من الرسائل التي وردت فيها؛ غير أن الثانية (الخطية) تحتوي أيضاً على بعض رسائل لم ترد في الأولى. وتسمى المجموعة الأولى في صفحة العنوان (بالرسالة الدامغة)