وجعلت أذكركم ودعت من أحباب، وكم فارقت من منازل، وكم قطعت قلبي قطعاً نثرتها في أرض الله الواسعة التي لا تحفظ ذكرى، ولا ترثى لبائس، ورأيتني لا أكاد أستقر في بلد حتى تطرحني النوى في آخر، كنبتة لا تكاد ترسخ في تربة وتمد فيها جذورها حتى تقلع وتنتقل إلى أخرى. . . ورأيت أني دخلت بغداد يوم لم يكن جاءها أحد من أصحابي فلبثت فيها وحيداً مستوحشاً، لا أعرف منها إلا المسجد، وما كان لمسلم أن يرى نفسه غريباً في بلد فيه مسجد، ولكنها العاطفة الضعيفة المتهافتة، فلما ألفتها وصارت بلدي، وغدا لها في قلبي مكان نفيت عنها. . .
دخلنا كارهين لها فلما ... ألفناها خرجنا (مكرهينا)
وفكرت في أمري متى ألقي رحلي، ومتى أحل حقائبي؟ وهل كتب علي أن أطوف أبداً في البلاد، وأعيش غريباً وحيداً بعيداً عن أهلي وكتبي وصحبي؟ وهاجت في رأسي الخواطر السود وماجت حتى لقد رأيت الشوارع الحالية بالزهر صحراء مجدبة، ورأيت شعاع القمر المضيء أظلم خابياً. . .
ومن طوف تطوافي، وأقبل مثلي على بلاد ما لها في نفسه صورة، ولا له فيها صديق، وفارق أهلاً إليه أحبة، وصحباً عليه كراماً، وكانت حاله كحالي، عرف صدق مقالي!
وصفر القطار وسار، وطفقت ألوح بمنديلي لصديقيّ الأثيرين أنور وحسن حتى داراهما عني الظلام، فنظرت حولي فإذا أنا وحيد في العربة الفخمة، لا أنيس ولا جليس، فكر فكري راجعاً إلى بغداد. . .
بغداد، يا مهد الحب، يولد الحب على جسرك الذي تحرسه (العيون)، وينمو في زوارقك ذات الأجنحة البيض التي تخفق كخفقان قلوب راكبيها، ويشب في كرخك وتحت ظلال نخيلك
فتشوا كم تحت الثرى من بقايا القلوب التي حطمها بسهام (العيون) هذا المخلوق الجبار الذي ولد على الجسر شابا، ونما في الزورق، واكتهل في الكرخ، ثم لم يمت لأنه من أبناء الخلود
سلوا أرض بغداد: أعندها خبر من شهداء الغرام؟
سلوا جو بغداد: أين النغمات العذاب التي عطرت نسيمه بعطر الجنة، فهزت قلوباً،