وهاجت عواطف، وأضحكت وأبكت، وأماتت وأحيت؛ هل أضعت ويحك هذه الثروة التي لا تعوض؟
سلوا الجسر. . . يا (جسر بغداد) إن ما بقي من حديثك قد ملأ كتب الأدب، حتى لم يعرف الناس سوقاً للعواطف والأفكار والعبر أكبر من جسر بغداد، فأين سائر أخبارك؟
كم ضممت ذراعيك على عشيقين فنعما بينهما بلذة الحب! وكم تركت حبيباً ينتظر فلا يرجع بعد الانتظار إلا بالخيبة والأسى! وكم عطفت على بائس منكود، وأعرضت عن منكود بائس، فأريت الأول من مشاهد الحياة ما هون عليه ما هو فيه، وزدت الثاني بؤساً ونكداً؟ وكم وعيت من أسرار الحب والبغض والفرح والحزن، والغنى والفقر، والعزة والذل، وكل ما تحتوي الحياة وتشمل النفس من ألوان؟ كم رأيت من حصاد الأدمغة وثمرات القلوب؟
كم مدت تحت أقدام خليفة كانت تصغي له الدنيا إذا قال لأنه ينطق بلسان محمد، وقائد كانت تخضع له الأمم إذا سار لأنه يلوح بسيف محمد؟
يا (جسر غازي) الجديد، الهائل العظيم، أعندك نبأ من ذلك الجسر الذي كان عالماً من العوالم؟ والذي كان سُرّة الدنيا وقطب رحاها؟ وكان للجد إذا جد الجد، وللهزل إذا جاز الهزل، فحوى المجد من أساسه، وجمع المتعة من أطرافها؟
وهذه المنارة المنحنية المائلة في (سوق الغزل) تنظر بعيني أم ثكلى. . . سلوها أين مسجدها الذي كان يضيق على سعته بالمصلين، حتى تمتد الصفوف إلى الشارع ثم تتتالى حتى تبلغ النهر؟ أين أولئك العلماء الذين أترعوا الدنيا علما وملئوا آفاق الأرض نوراً وهدى؟ أين مواكب الخلفاء حيث. . .
أين فرسان المنابر وأبطالها؟ أين جيران المحاريب وجلامها؟ أين. . . أين. . .؟
يا أسفي! لقد سرق المسجد، وهدم المنبر، وضاع المحراب، ولم تحفظ الحجارة يا بغداد مآثرك ومصانعك، ولاوعت الأرض ذكريات حبك، ولا أبقى الجو رنات عيدانك. . . أفلا