حفظتها قلوب اقسم أصحابها أنهم ذاكروا عهدك وأنهم مرجعوا مجدك؟
فأين مسجد بغداد الجامع يا مديرية الأوقاف؟ أين المسجد يا إدارة الآثار؟ أين المسجد يا من تخذتم المسجد بيوتاً ودكاكين وتركتم المنارة منحنية عليه تبكي!
أين المدرسة النظامية يا من أقمتم على أنقاضها سوق الشورجة لتبيعوا فيه البصل والثوم - وقد كانت تباع فيها حيوات العلماء وعصارات عقولهم وقلوبهم؟. . .
لا تحزني يا بغداد واصبري فإن كل شيء يعود ما بقي في القلب إيمان، وفي الفم لسان، وفي اليد سنان
وتلفت ورائي فإذا بغداد قد اختفت وراء الأفق. . . وغابت مسارب الأعظمية التي تحاذي النهر، تتكشف تارة فتضيء، ثم تختفي في ظلال النخيل كشاعر منفرد يتأمل، أو محب معتزل يناجي طيف الحبيب، ويسامر ليالي الوصال التي تلوح له صورها. . . والنهر يطلع عليها مرة بصفحته البيضاء المشرقة التي تشبه أمنية بدت لحالم، ثم يحجبه عنها النخيل، ويمحوه الظلام كما تمحو الحياة بواقعها الأحلام وتطمس صور الأماني. . . وغابت شوارع الصالحية ذات الفتنة والجلال وغابت المآذن الرشيقة، وغابت القباب. . . وبقيت أنا والماضي!
هذا الماضي الذي طالما قاسيت منه، وطالما كابدت. . . ثم كلما أوغلت به انحداراً في أعماق نفسي ودفنته في هوة الذكرى وقلت مات، عاد حياً كاملاً تثيره نغمة وتهيجه صورة ويبعثه بيت من الشعر. . . فيبعث بحياته آلامي. . .
غابت، فسلام على بغداد، وأشهدوا أنه ما بعد دمشق بلد أحب ألي من بغداد، ولا بعد العتابا نغمة أوقع في قلبي من الأبوذية، ولا بعد الحور شجر أجمل في عيني من النخيل، ولا بعد بردي نهر أعز على نفسي من دجلة. . .
استغفر الله! إلا حرم الله ومدينة نبيه، فهما والله أحب البلاد ألي، وماؤهما ألذ الماء في فمي، وشجرهما، أبهى الشجر في بصري. . .
السلام عليك يا بغداد ولو نفيتني عنك إلى كركوك، وعلى ساكنيك السلام. . .