ضيق الصدر، لَقِس النفس، كأنما أتوقع حدثاً يحدث، أو خطباً يلم، وإذا بي أبصر الهرة تلج من باب الدار بهيئة أنكرتها: أبصرتها تمشي متحلجة، متخلعة، تخالف بين يديها ورجليها، وتقوم وتقع، وتصطدم بما يلقاها في طريقها، فأثبتها النظر، فرأيت، وما أفضع ما رأيت! رأيتها مشجوجة شجاً قبيحاً، فأدركت من فوري أن فظاً غليظ القلب، محمقاً من طباخي الحي قد أعنتته الهرة في طلاب العيش، فأهوى إلى رأسها بسكينه، فشتر إحدى عينيها، وكاد يشطر الرأس شطراً.
وأدركت أن المسكينة تحاول الوصول، على ما بها، إلى صغارها، فطفقت أجمعهن لها من هنا وهنا، وما هي إلا أن أحستهن حتى تحوَّت عليهن، ترضعهن وتمسحهن بلسانها على عادتها. فلما جن الليل جعلت أريد الهرة على الخروج من المنزل، لعل برد هواء العشى ونسيم السحر ينفعها، ولكنها رفعت إلي رأسها وكأنها تستعفيني من الخروج ليلتها تلك، ولأقض بعد ذلك ما أنا قاض. فنزلت على وحي حالها ودلالة منظرها، وانصرفت إلى مضجعي. فلما كان الصباح إذا بي أصحو على مواء موجع صادر من الهرة، فأسرعت إليها فوجدتها تعالج سكرات الموت؛ وما هي إلا لحظة حتى غدت جثة هامدة لا حراك بها. كل ذلك والقطيطات حيال ذلك المنظر الذي لم يعرفنه بعد، مبهوتات صامتات مأخوذات. وكأنهن وقد سكنت حركة أمهن يتمثلن بالشعر الذي وضعه الشاعر الإنكليزي، بيرون، على لسان (قابيل) عندما رأى أخاه (هابيل) ميتاً، ولم يكن رأى الموت قط:
أخي! ما عراك؟ وكنت الغداة ... ذكي الفؤاد، قوي البدن
على العشب ملقى، فماذا دهاك؟ ... أنوم، وما الوقت وقت الوسن؟
سكنت، وأمسك منك اللسان ... وهل مات حي إذا ما سكن؟
ألا ما هلكت! وإن كان في ... شحوبك معنى بهيج الحزن
نعم! لقد كان في حال تغير الهرة الميتة معنى هاج حزن القطط، فقد لذن بأركان المكان واجمات، ولو ألهمن النطق لتمثلن بقول النابغة:
من يطلب الدهر تدركه مخالبه ... والدهر بالوتر ناج غير مطلوب
ما من أناس ذوي مجد ومكرمة ... ألا يشد عليهم شدة الذيب
حتى يبيد على عمد سراتهم ... بالنافذات من النبل المصابيب