إني وجدت سهام الموت معرضة ... بكل حتم من الآجال مكتوب
وثارت نفسي لهذا المنظر الأليم، وذكرت قسوة الإنسان على العجماوات مع أنه مستأمن عليها، مستحفظ لها، مسؤول عنها. وذكرت ما جاء في صحيح الأثر من أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي أسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. وذكرت قول الرسول العربي:(إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور): ونهيه عليه السلام أصحابه عن اقتعاد الرحال في المجالس حتى لا يعلق بها شوك يؤذي الإبل عندما توضع على ظهورها، وقول عمر لرجل رآه يعنف بماشية يسير ليذبحها:(يا هذا سقها إلى الموت سوقاً رفيقاً)، وذكرت رسالة (الحيوان والإنسان) التي ختم بها إخوان الصفاء رسائلهم، وكيف ذهبوا فيها مذهباً لطيفاً في التدليل على أن الإنسان في حقيقة الأمر حيوان من الحيوان، لا يفضل غيره من الأنواع إلا بالعمل الصالح المنجي له في الدنيا والآخرة. ذكرت كل ذلك فعلمت أن البون لا يزال عندنا شاسعاً بين القول والعمل، وأن المبادئ الجميلة لا تزال إلى حد بعيد مجرد حبر على ورق، وذلك من سوء حظ الإنسانية الصحيحة.
أما بعد! فلا تبعدي أيتها الهرة المظلومة! فكأس المنية لا تبرح دائرة على الخلائق، يشرب بها الرفيع والوضيع؛ وسيان في حكمها من يمشي سوياً وما يمشي مكباً على وجهه. إن الموت لعمري واحد، ولكن الموتات تختلف؛ وموتتك أيتها الهرة؛ من أشرف الموتات. لم تموتي حتف أنفك، ولم تموتي في مسعى باطل. لقد قضيت جاهدة، مجاهدة، وذهبت في ريعان عمرك ضحية الواجب، والسعي الصالح. إذا طالت الأعمار بأقوام رضوا بالهوان والمسكنة، وآثروا العافية المذلة على الجهاد المشرف. نعم، إنك لم تجدي في هذا العالم من ينصفك، ويطلب بثأرك، ولكنك واجدة عند القوة الممسكة لهذا الكون خير الجزاء. ألم تدخل امرأة في هرة أماتتها ظمأ وجوعاً؟ أليس معنى أن الإنسان إذا تجرد من الرحمة فهو عند الله لا يستحي أن يقصها منه إذا طغى عليها وتجبر؟ ألا كفى بذلك للنفس، لو تعلمين، تأساء وتعزية.