فالعمل الفكري هو أبعد شيء عن الظهور وأرغب شيء عن روح الادعاء والرغبة في الإعلان. وهذا هو ما يبعث الغيظ في نفس الأديب، خصوصاً وأنه، من بين الناس جميعاً، يمتاز ببعض الهوس في طلب الشهرة وغير قليل من الغرور والتعالي بالنسبة إلى الآخرين. ولذلك يضطر إلى شيء من الذهاب بالنفس في الخيلاء إلى حد قد يبدو غريباً أمام الذين لا يعلمون شيئاً الأوار الذي يلهب صدره ويشعل كيانه من الداخل.
ومن هنا نريد أن نكون حريصين عندما نأخذ في دراسة الآثار التي تركها الأدباء والشعراء بخصوص المسائل القلبية والمشاعر المتصلة بالوجدان والعواطف التي تفرزها خيالاتهم وأوهامهم وإذا كانت من طبيعة الشاعر أن يجعل موضوع الحب محلا ً لعنايته واهتمامه، وأو إذا كان يتجه هذا الاتجاه بالفطرة فلسبب بسيط وهو أنه يعلم تمام العلم بنوع من البديهة أن الحب، من بين المظاهر الإنسانية جميعها، لا يكون موضع اشتراك ولا يحصل بطبيعته أمام أنظار الناس. ولذلك يسهل عليه تزوير قصصه والعبث بحكاياته والمداراة علة عيوبه فيه. فالحب تجربة فردية إلى أقصى درجة ولا يتم جوه إلا إذا خلصت الحياة لاثنين بالذات من بين الآدميين. ولذلك كان يستهوي الشعراء دائماً من هذه الناحية أيضاً، ويصير موضوعاً ممتازاً من موضوعات الاستغلال المعنوي والتعبير الذاتي.
فالحب يستهوي الشعراء ويكاد يكون موضوعاً لديهم جميعاً باستثناء القليلين لسببين تكلمنا عنهما حتى الآن وأعني بهما ما في الحب من طبيعة السحر والغموض والامتلاء بالأسرار ثم ما في الحب من مجال فسيح الإشباع رغبة الفنان عندما يحاول إعطاء حياته نوعاً من الأهمية وعندما يطمع في تغطية بعض الفراغ الذي يحيط به من كل جانب.
ثم هناك سبب ثالث وهو أن الحب مملوء بروح المأساة. وهذا في اعتقادي هو أهم الأسباب التي تدفع الشعراء نحو تصوير عواطفهم بإزاء من يحبون ومن يصطفون بين مخلوقات الله. قد يظن البعض أن المآسي تأتي بعد انتهاء مدة الحب وفترة التواصل ووقوع الفرقة. ولكن الشيء الصحيح في هذه الظاهرة هو أن المأساة التي هي من لوازم الحب الأصلية تملأ الشاعر بنوع من الميل وتجذبه جذباً بروائها وسحرها كما يجذب النور الأبيض فراش الليل الهائم بين أودية الظلام. فالشاعر ليس بالعالم الذي يطلب إليه ذكر الوقائع والتقيد بالأحداث، ولا يستطيع هو نفسه أن يستكفي بالحقائق يذكرها في غضون كلامه. ولذلك