أن يلي منصبا عاليا من مناصب الدولة، ولكن أنى له الشجاعة التي تدفعه إلى أن يتحدث بذات نفسه إلى واحد من صحابه، وهو في نفسه عظيم بين عظماء، لا يسمو عليه الوزير، ولا يبذه الباشا، ولا يعلو عليه المدير. لا ريب فإن طلبه سيضع من قيمته في نظرهم جميعا، ولكنه سيجد الخلاص. وشمله مركب العظمة فهو لا يتكلم إلا عن عظمته هو، وعن مواهبه وعبقريته ونبوغه.
وفي ذات يوم قال لي (أرأيت؟ لقد ولى فلان باشا وزيرا لوزارة كذا، ولولا أنه صديقي لنازعته المنصب، ولو أنني فعلت لظفرت به ولغلبته على أمره) وابتسمت لكلماته الجبارة حين رأيت مركب العظمة يتوثب شامخا في غير تواضع مترفعا في غير تحرج، ثم قلت (وأنت لو شئت لاختارك معالي الباشا، وهو صديقك، وكيلا لوزارته) قال لي (حقا، حقا! غدا أذهب إليه لأهنئه ولأطلب إليه ما أريد في شجاعة وتشبث).
وغدوت إلى مدير مكتب معالي الوزير، وإن بيني وبينه صلات العمل وأواصر الصداقة، فألفيت صاحبنا البك جالسا على كرسي وثير وعليه سيما العظمة والكبرياء، وبين يديه ورقة وبين أنامله قلم، فحييته في احترام وجلست إلى جانبه أحدثه (ماذا تفعل يا سيدي البك) قال (لقد أردت أن أقابل معالي الوزير فلم أجده فأنا أكتب إليه خطبا أهنئه بالمنصب الجديد، وأطلب إليه ما أريد) قلت (وماذا تريد؟) قال (أريد أن أكون عضوا في مجلس الشيوخ في المكان الذي خلا بوفاة فلان باشا) قلت: وماذا عسى أن يملك الوزيرة من هذا الأمر، وهو بين يدي مولانا الملك) قال (لا عجب أن تقول هذا القول وأنت موظف صغير لا تفهم عن المناصب الكبيرة شيئا. ألا تعلم أن معالي الوزير إن شاء حدث دولة الرئيس في شأني حديثا طيبا، فما يحجم دولة الرئيس عن أن يزكيني لدى مولانا الملك) قلت (عجبا! كيف فاتني هذا الرأي!)
ثم أنطوى البك على قلمه وقرطاسه، وفرغت أنا إلى مدير المكتب، فقال لي (أو تعرف شيئا عن هذا الأفندي؟) قلت عابثا (لا تقل هذا! إنه رجل من ذوي المكانة والخطر، وهو صديق روحي لصاحب المعالي الوزير، لا يوصد في وجهه بابآ، ولا يرد له شفاعة) قال (ولكنه يجهل التقاليد الحكومية) قلت (ولمه؟) قال (لقد طلب إلي أن يلقى الوزير ليهنئه، وليطلب إليه أن يعينه عضوا في مجلس الشيوخ، وهذا أمر لا يد للوزير فيه) قلت (الآن