وقد نظر النبي صلى الله عليه وسلم فرأى الأكثرية في جانب الذين يرون الخروج من المدينة، فلم ير إلا أن يترك رأيه إلى رأيهم، وإن كان يرى أن رأيه هو الأرجح، لأنه قد أمر بالشورى، والشورى تقتضي أن يأخذ برأي من يستشيرهم إن اتفقوا عليه، فإن اختلفوا فيه أخذ برأي أكثرهم، حتى تمشي الشورى على قاعدة مطردة، وتجري على منهاج معروف، تجتمع عليه كلمة الأمة، ولا تكون الشورى معه سبباً لانقسامها واختلافها، وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بقاعدة ارتكاب أخف الضررين، لأن ضلالا مخالفة رأي الأكثرية في الخروج من المدينة أشد من مخالفة رأيه في البقاء فيها. وقد بعث صلى الله عليه وسلم معلماً ومرشداً، فضرب بهذا مثلا في حكم الشورى، ليأخذ المسلمون به بعده، وتكون القاعدة فيه الأخذ برأي الأكثر عند الاختلاف في الرأي.
فكيف مع هذا يرى فضيلة الأستاذ أن الأخذ برأي الأكثر ليس من السياسة الدستورية الشرعية، وفي الإسلام مجال واسع للأخذ برأي الأكثر، وذلك في كل ما يؤخذ فيه بالشورى من أمور الدنيا، ومن بعض أمور الدين التي لا يوجد فيها نص قاطع من الكتاب أو السنة، ولا شك أن تقييد الأخذ برأي الأكثر بذلك لا شيء فيه، لأن المجالس النيابية في الحكومات الحديثة لا يصح لها أن تتدخل في كل شيء من أمور الدولة، بل تقف سلطتها عند حدود لا تتعداها، ولا تطغى بمجاوزتها على غيرها من السلطات التي تتألف منها الحكومة.
وأما ما ذكره فضيلة الأستاذ من ضرر الأخذ برأي الأكثرية عندما تكون من حزب واحد فهم أمر قد يعرض لهذا النظام، ولا يصح أن يؤخذ به، كما لا يصح أن يؤخذ كل أمر نافع بسوء استعماله. بل يجب أن يعالج هذا فيه بما يصلحه.