للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والواقع أن معظم الناس يتبعون في حياتهم العملية أصول هذا المذهب، فهم ينتقون لأنفسهم من الآراء ما يعين على تحقيق أغراضهم التي يقصدون إليها، أو ما يعمل على رقي الإنسانية وتقدم البشر بصفة عامة. خذ العقيدة في الله مثلاً، فالأكثرية العظمى تأخذ بها لا لأن الدليل قاطع بوجوده، (فذلك أبعد عن متناول الدهماء) ولكن لأنها ترى أن هذه العقيدة تبث في حياة الناس روحاً قوية، وتفسح أمامهم في الأمل الجميل الذي تزدهر به الحياة وتبتسم، والذي لولاه لضقنا ذرعاً بفداحة عبئها. . فليس منا من لا يقيس الآراء بظروف عيشه ثم يختار منها أنسبها له وأفعلها في أداء مهمته؛ فسلوكها العملي هو في الواقع الذي يوجه أفكارنا، وليست أفكارنا هي التي توجه أعمالنا. ولقد قال موسوليني يوماً إنه يدين لوليام جيمس بكثير من آرائه السياسية، وإنه بتأثيره لا يحتكم في سياسته إلى نظريات العقل المجرد، إنما يسلك من السبل ما يراه أقوم وأدنى إنتاجاً.

وإن نيتشه ليذهب في هذا الاتجاه إلى أقصاه، فيقرر أن الباطل إذا كان وسيلة ناجحة لحفظ الحياة كان خيراً من الحقيقة؛ فبطلان الرأي لا يمنع قبوله ما دام عاملاً من عوامل بقاء الفرد وحفظ النوع؛ فلرب أكذوبة أو أسطورة تدفع الحياة إلى الأمام بما تعجز عنه الحقيقة المجردة العارية. أنظر كيف تفعل الوطنية في رأس الجندي فيطوح بنفسه بين براثن الموت، ولو حكم عقله المجرد لما فعل؛ بل أنظر كم يبذل الآباء والأمهات من مجهود في سبيل أبنائهم، ولو استرشدوا العقل وحده لآثروا أشخاصهم ولضنوا على لأبناء بأي بذل أو عطاء، ولكننا لحسن الطالع ذرائعيون بالفطرة، فنعتنق من الآراء أحفظها للحياة، ولولا ذلك لظلت الإنسانية في حيوانيتها الأولى لا تتقدم ولا تسير.

ولا يقتصر الأمر في ذلك على عامة الناس، بل إن أرباب العلم أنفسهم ليأخذون بطائفة كبيرة من الآراء التي تعين على المضي في بحثهم، دون أم ينهض الدليل العقلي على صحة تلك الآراء التي اتخذوها أساساً لأبحاثهم، فلا يدري العلم ما الأثير وما الجاذبية وما المادة وما الكهرباء، ولكنه يفرضها لأنها تعينه على أداء مهمته؛ وهذا بعينه ما يدعو إليه مذهب الذرائع، فيكفي لأن تكون تلك الآراء صحيحة أنها توجهنا في حياتنا توجيها صحيحاً، فلا يعنينا في كثير أو قليل أن نعلم ما هي الكهرباء في ذاتها ما دمنا نستطيع أن نستخدمها، فحسبنا من معناها آثارها، وليكن معنى الكهرباء هو ما تعمله وما تؤديه، وعلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>