هذا النحو يمكننا أن نتخلص من أعوص المسائل الفكرية التي أرهقت الفلسفة بغير طائل؛ فلندع جانباً كل بحث عن ماهية القوة أو ماهية المادة أو ماهية الله وما إلى ذلك، وحسبنا منها أن نبحث عن الآثار التي تنشأ عنها في حياتنا اليومية العملية، فإن لم يكن لها آثار فيما نصادف من تجارب وجب اعتبارها ألفاظاً جوفاء لا تحمل من المعنى شيئاً.
وهكذا يريد مذهب الذرائع أن تكون كل فكرة وسيلة لسلوك عملي معين، أعني أن تكون الفكرة تصميماً لعمل يقوم به الإنسان، أو لا تكون على الإطلاق؛ فالفكرة التي تحيا في الذهن وحده ليست جديرة بهذا الاسم، ولا خير فيها إلا أن كانت مرشداً للإنسان في حياته وسلوكه، فيكون مثلها مثل اللون الأحمر أو الأخضر على السكة الحديدية يراهما سائق القطار فيوجهان تصرفه توجيهاً معيناً، أو كالعلامات الموسيقية كل قيمتها في توجيه حركات الموسيقيِّ، فإن لم تُفد ذلك كانت عبثاً صبيانياً لا يعني شيئاً؛ فيجب على هذا الأساس أن تكون كل فكرة في أذهاننا مرشداً عملياً يرسم لنا سلوكنا ويضع لنا القواعد التي ينبغي أن نسير على مقتضاها في حياتنا اليومية. أو بمعنى آخر تكون أساساً لعادة معينة. ففكرة الجاذبية مثلاً معناها محصور في تكوين عادات أستعين بها في سلوكي، فأعرف كيف أنظم علاقاتي بالأشياء تنظيماً ملائماً، فأحمل كوب الماء مثلاً وفمه إلى أعلى حتى لا ينسكب الماء بفعل الجاذبية؛ وأمشي معتدل القامة خشية السقوط بفعل الجاذبية، وأشيد مسكني مستقيم الجدار لئلا ينهار بفعل الجاذبية، وهلم جرا. أما إن كانت حياتي لا تتأثر بهذه الفكرة، وكنت لا أصادف لها آثارا فيما أصادف من تجارب، كانت في اعتباري وهما وخطأ، بغض النظر عن حقيقة وجودها في العالم الخارجي أو عدم وجودها؛ فالرأي الصحيح هو ما ييسر لي سبيل الحياة ويعمل على توفيقها ونجاحها، والرأي الخاطئ هو ما يفعل عكس ذلك، أو ما لا أرى له أثراً في الحياة.
وظاهر أن نظرية التطور تؤيد هذا المذهب وتدعمه، لأن العقل عندها ليس إلا عضواً كسائر الأعضاء يتذرع به الإنسان في تنازع البقاء، وأنه لو لم يكن العقل أداة من أدوات البقاء لما وجد أصلاً؛ وإذن فالفكرة التي تنشأ فيه لا تكون صادقة بمقدار مماثلتها للحقيقة الواقعة في الخارج، كلا، بل مقياس صدقها هو في مقدرتها على إجابة الظروف المحيطة بنا على النحو الذي يمكن لنا في البقاء. ولتوضيح ذلك نقول إنه من المعلوم أن الأشياء