كما كان من قبل، فقد يظهر أنهما درجتان من حقيقة واحدة، وأن ذرة أو الذرة إلى قوة، وإذن فلا يكفي في تعليل الكون أن نقول إنه مؤلف من مادة، لأن في هذه المادة نفسها ما يحتاج إلى التعليل.
(٢) وأما زعم الماديين بأن العقل ظاهرة مادية، وأن حقيقة الإحساس كما يقول هوبز إن هي إلا حركة في الجهاز العصبي، وإن الفكر سلسلة من الاحساسات الماضية، أي أنه مجموعة حركات متعاقبة، فيكفي لهدمه أن نطالبهم مثلا بشرح هذه العبارة:(أنا أحب هذه الوردة الجميلة) إنها حقيقة فكرية أحس بها ولا شك في وجودها؛ فهل يقول الماديون أن هذا الحب هو هزة الأعصاب على نحو معين؟ خذ مجهرك وانظر إلى الأعصاب فسترى قطعة من المادة تهتز وتتحرك حقاً، ولكنك لن ترى (حباً) ولو حدقت في مجهرك عاماً كاملاً!! هذا، وان لنا أن نسائل الماديين: لماذا لا تنتج الحركة في كل ظواهر الوجود المادي إلا حركة مثلها، ثم هي في الإنسان تنتج إحساساً وفكراً؟ وما احسبنا ظافرين منهم بالجواب! وإذن فقد عجز هذا المذهب الطبيعي عن تفسير ظاهرة عن ظاهرة العقل كما فشل في شرح المادة نفسها.
(٣) وأخيراً، يقول أنصار هذا المذهب أن حوادث الكون يمكن تفسيرها بما يسيرها من القوانين العلمية، ولكن أي عقل يكفيه هذا التفسير؟ أني أرى مثلاً هذه القطعة من الحديد تتمدد نهاراً وتتقلص ليلاً، فلماذا؟ سيقولون أنه قانون الحرارة المعروف الذي تتمدد نهاراً وتتقلص ليلاً، فلماذا؟ سيقولون إنه قانون الحرارة الذي تتمدد المادة على سننه وقواعده، ولكن لماذا تمدِّدُ الحرارة الجسام؟ فإن أجبت عن هذا السؤال بما يجيب به أرباب العلم من أن ذلك ناشئ عن تصادم الذرات أثناء تحركها، فسأعود إلى استجابتك: ولماذا يحدث هذا، حتى تقر معي بأن هنالك آخر المر ما يتعذر تعليله بأصول هذا المذهب، وإن القوانين التي يلجأون إليها لتعليل ظواهر الكون هي بدورها تحتاج إلى التعليل.
مذهب الذرائع
لقد لبثت الفلسفة دهراً طويلاً تسبح في سماء الفكر المجرد، فلا تصغي بآذانها إلى الحياة العملية التي تعج بأصدائها أرجاء الأرض جميعاً. ولا تحفل بالواقع الذي تراه الأبصار إلا قليلا، فقد قصرت مجهودها - في الأعم الأغلب - على جوهر الأشياء في ذاتها، وأخذت