وشبيه ذلك ما حكاه علي بن سعيد العطار قال: مررت بكفيف مجذوم وفوقه زنبور يقع عليه فيقطع لحمه! فحمدت الله أن عافاني مما ابتلاه، فصاح في وجهي:(ما دخولك فيما بيني وبين الله؟ فوعزته لو قطعني إرباً، وصب علي العذاب صباً، ما ازددت له إلا حباً) فما رأيكم في هذا الرد الآخر؟ أن صحائف المتصوفين لتزدحم ازدحاماً بأمثال هذه الروائع. وهي عبر تخلق من الثكلى الصارخة حجراً صلداً لا ينبس بنت شفة وإن فارقها أعز الأبناء!
أن العارفين بالله يرون الأذى الجسمي امتحاناً سماوياً، ولا تصدق محبتهم إلا إذا قابلوه مقابلة طيبة ووقع من نفوسهم أطيب موقع وأرضاه، وقد يبدو لبعضهم أن يمتحن أصحابه بالإيذاء كما يمتحن المولى عبيده بالأوصاب، فقد زار أبا بكر الشبلي جماعة من أحبائه وهو مريض بالمارستان، فسألهم عن مجيئهم، فقالوا إنا محبوك يا أبا بكر، فرماهم بحجر كان في يده، فلاذوا بالفرار وصاح بهم الشبلي: يا كذابون، لو صدقتم في محبتكم ما هربتم! وكأني به وقد رأى في ربه أعظم مثال للاقتداء!!
ولنا أن نتساءل: أكان المتصوفون يشعرون شعوراً تاماً بشدة ما يكابدونه من أنواع الإيذاء؟ أما أن فيهم من وصل إحساسه إلى درجة يهون معها التعذيب كما تنطق بذلك بعض الروايات؟
أرجو أن يكون القارئ واسع الصدر فلا يتعجل بتكذيب ما نعرضه بين يديه، فلن نرسل الكلام إرسالاً بدون تعليل وتدليل، وإن كنا نتكلم في خوارق بعيدة، تفعل بالعقول - بادئ ذي بدء - ما تفعله الزلازل في قنن الجبال.
فهل صحيح ما روي عن أحد الأقطاب أنه كان يسير على الماء وحوله الموج المتلاطم يتراكب بعضه فوق بعض، وكأنه يسير في طريق ممهد يدرج عليه الناس!!
وهل صحيح أن الشبلي كان ينتف اللحم من وجهه بمنقار حاد، فإذا سئل عن ذلك قال: ظهرت الحقيقة ولست أطيقها فأنا أدخل على نفسي الألم لأحس به ولكن هيهات هيهات!!
وهل صحيح أن أبا الحسن النووي سمع منشداً يقول:
ما زلت أنزل من ودادك منزلا ... تتحير الإفهام دون نزوله
فتواجد وهام في الصحراء ثم وقع في أجمة قصب قد قطع وبقيت أصوله كظبا السيوف،