ولا يبالي بشأنه إلا كما يبالي بشأن المريض لاستطلاع حالة من أحوال سقم النفوس والأذواق.
إن (الآلية) هي الوصف الوحيد الذي ما جاز قط ولن يجوز أبداً في نتاج أدب صحيح أو فن صحيح.
وإنما يجوز الخلاف فيما عدا ذلك من الأوصاف. أما وصف الآلية فالاتفاق على إنكاره بداهة من البداهات، إذ كان معدن الفن كله حرية السليقة والقدرة على الإبداع والإتيان بالجديد حتى في عرض المعنى القديم.
ونحن حين نقول الحرية لا نقصر الغرض منها على حرية الفنان في مواجهة العسف والإملاء والإيحاء من غيره، ولا نقصد منها أن الفنان يأبى ما يرسم له ويساق إليه على حكم القسر والاضطرار؛ ولكننا نقصد بها مقصداً قد يلوح في بادئ الرأي غريباً نابياً وهو هو المألوف المشهود فيما يمارسه وفيما قد مارسه كل صاحب فن وكل صاحب رسالة أدبية: نقصد بها (حرية الفن) حتى بين الفنان ونفسه، فليس له أن يعتسف ولا أن يدعو ملكته إلى غير ما ترضاه وتنساق أليه بمحض (الحرية) وعفو السليقة، وليس له هو أن يخط للحرية الفنية حدودها أو يشق لها طريقها، لأنها (حرية مطلقة) لا فرق عندها بين طغيان صاحبها وطغيان عدوها، ولا محاباة عندها في استجابة أمر تراد عليه.
ومن الأدباء الواقعيون والخياليون، ومنهم أنصار الماضي وأنصار المستقبل، ومنهم الماديون والروحيون، ومنهم المتفائلون والمتشائمون، إلا أنهم جميعاً في هذه الخصلة سواء؛ وهي الخصلة التي يتمردون بها على الآلية ويرتفعون بالإنسانية إلى ذروتها العليا؛ وما كانت للإنسانية علامة ترفعت بها عن درك الحيوان إلا التكليف؛ وما كان التكليف إلا الدرجة الأولى من سلم الحرية التي تأخذ بشيء وتدع ما عداه، والتي تختار بين الحميد والذميم والمطلوب والممنوع. أما الدرجات فوق ذلك فهي (الحرية الفنية) التي تنبعث من باطن الإنسان بغير آمر ولا زاجر، ولا تتوقف على التكليف والتخيير.
نعم ليس الواقعيون أو الماديون عنواناً آخر للموافقين أو المقلدين. فمن يصف الواقع ليس باللازم اللازب أن يخضع له ويرضاه، ومن ينكر المثل العليا ليس باللازم اللازب أن ينكر الحركة ويخلد إلى الجمود.