للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لقد كان المتنبي (واقعياً) إلى جانب العمل، وكان المعري واقعيا إلى جانب الزهد والقعود، وكلاهما مع هذا مثل بارز في التمرد والثورة على (الآلية) والتقليد؛ فأسلوب المتنبي جديد، وخبرته للناس جديدة، وثورته على الواقع معناها أنه من المتمردين وليس من الموافقين.

أما المعري فهو على تشاؤمه وزهده قد دفع الحاضر المحيط به دفعة الجبار الذي يهدم بيديه وهو قائم في مكانه. وقل فيه ما شئت إلا أنه آلة وليس بإنسان في الصميم من الحرية الإنسانية؛ وقل في تمرده ما شئت إلا أنه تمرد آلي وليس بتمرد (حر) يمتاز به المعري بين سائر المتمردين؛ وإلا فمن هو المتمرد الذي يشبه المعري في تناول الأمور ونقد العيوب وصياغة النقد في منظومه ومنثوره؟؟ تلك علامة الأدب الصحيح أو الفن الصادق: علامته أن عشرين شاعراً ينكرون أموراً بعينها ثم يختلفون في نمط الإنكار اختلافا يحمل عنوان كل شاعر منهم ولا يخالط غيره من العناوين

من الواجب أن نثور على أدب الموافقة

وأوجب منه أن نثور على أدب (الثورة) الكاذبة، أدب التمرد البخاري أو الكهربائي الذي يحطم ذات اليمين وذات الشمال كما تحطم القاطرة بغير سائق.

وفي أوربا اليوم غاشية من هذا التمرد الزري يوشك أن تسري إلى أمم الشرق، لأنها أشبه الأمور معاً بكسل الكسالى وجموح الجامحين. فأما الكسلان فالتمرد الآلي مغنية عن التحصيل، ومغنية عن إجهاد الذهن ورياضة الذوق على التفريق والتمييز؛ وأما الجامح الأهوج فالتمرد الآلي في يديه كالسيف الذي يشهره المجنون وهو مغمض العينين أو مفتوحهما على حد سواء

وأظهر ما كان ظهور التمرد الآلي في عالم التصوير، لأنه الفن الذي يفاجئ العيون ولا يخفي الشذوذ فيه حتى يتسرب إلى الأفكار والأذواق. فالمصورون المجددون اليوم في أوربا اللاتينية يصورون لك ما شاءوا إلا ما تراه وتحسه وتتخيله وتفقه مغزاه. ومن المحقق أنك تبحث عن وجه الرجل المرسوم فلا تراه، وعن مشاهد الطبيعة المرسومة فلا تراها، وعن الرمز المتوقع أو الشبه المنتظر فلا تلمح أثراً لهذا ولا لذاك. . . وكل شكل جائز أن تلقاه في الصورة إلا الشكل الذي يجب أن تلقاه!! ولا تدري بعدها ما الذي على الإنسان أن يتعلمه ليسلك في عداد المصورين؟ هل يتعلم الرسم؟ هل يتعلم مزج الألوان؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>