الذي تغمر هذه الثقافة ضفافه الشمالية منذ العصور الوسطى، وإن الأمر يتعلق هنا بعوامل جغرافية واجتماعية لا سبيل إلى إنكارها؛ بيد أننا نشك في صواب هذه النظرية؛ والواقع أنه إذا كانت الثقافة اللاتينية أو بعبارة أخرى الثقافة الفرنسية قد غلبت على الثقافة المصرية في القرن التاسع عشر، فإن ذلك يرجع بالأخص إلى حوادث وظروف تاريخية طارئة، أخصها مقدم الحملة الفرنسية إلى مصر، وما بذلت خلالها مقامها القصير بمصر من مجهودات علمية وثقافية محمودة، وما كان من اعتماد محمد علي بعد ذلك على نصح المستشارين والعلماء الفرنسيين في تنظيم ثقافة مصر الجديدة؛ هذه هي الظروف والعوامل الحقيقية التي نشأ فيها لون ثقافتنا اللاتيني، ولا دخل هنا للعوامل الجنسية والجغرافية في هذا التطور الثقافي الطارئ؛ والدليل على ذلك أن طابع ثقافتنا الفرنسي قد ضعف في العصر الأخير، وقوي فيها الطابع السكسوني نظراً لتغلب النفوذ الإنكليزي في شؤون التربية والتعليم، وتسرب العوامل الثقافية الجديدة إلى المجتمع المصري
والآن ومصر في مستهل عهد جديد من تاريخها يمتاز بآفاقه الحرة المستقلة، نرى أنه يجب على مصر أن تعمل، كما تعمل جميع الأمم المستقلة الناهضة على أن تطبع ثقافتها الجديدة بطابع قومي واضح؛ وأول ما يجب عليها في ذلك هو أن تجانب اصطفاء ثقافة أجنبية بعينها، وأن تنظر إلى مختلف الثقافات والحضارات نظرة واحدة تأخذ منها جميعاً ما يصلح لإنشاء ثقافتها الخاصة، وان تنسق ذلك المزيج المستخلص من الثقافات المحدثة وتدعمه بالعناصر القومية التي تسبغ عليه طابعه القومي المنشود
والمعروف أن الثقافات القومية تعتمد دائماً على أمور جوهرية منها إذكاء الروح والتقاليد الوطنية، وتقوية اللغة القومية، وتدعيم المثل الأخلاقية، والعناية بالتاريخ القومي، وتقديم الشؤون والدراسات القومية على غيرها. ولا مرية في أن ثقافتنا الحالية ضعيفة في معظم هذه النواحي، فهي بعيدة أولا عن ذينك التخصيص والاستيعاب اللذين تأخذ بهما جميع الثقافات المستقلة في الدراسات القومية، بل يلاحظ بحق إن ثقافتنا الحالية تعتمد على المعلومات والدراسات السطحية العامة، فتقتبس القليل السطحي من كل شيء، ولا تتجه إلى التخصص والإتقان في شيء؛ وهذا عيب جوهري يجب تداركه بأسرع ما يستطاع، ثم إن ثقافتنا لا تكفي بصورتها الحالية لتغذية الروح الوطني الناشئ، لأن أنظمتها وبرامجها