خيل إليه أن الحياة ليست الا هذه الصور المكانية التي يحسها؟ ولكن الحق الذي لا ريب فيه هو أن جوهر الحياة وروحها إنما ينحصران في الزمان أكثر مما يتعلقان بالمكان؛ والزمان في الواقع عبارة عن تراكم صور كونية فوقها فوق بعض، أو إن شئت فقل صورة كونية واحدة امتدت على طول الزمان وأخذت تنمو وتتزايد شيئا فشيئا، ومعنى ذلك أن الماضي من بدئه الأزلي لم يفن، وإنما آخذ يتقدم فتتزايد أحداثه قليلا قليلاً إلى أن تضخم فكون الزمان الحاضر. وإذا كان الزمان عبارة عن مجموع الصور التي مرت على الوجود فيستحيل أن يكون المستقبل مشابها للماضي، لأن في كل خطوة زيادة تضاف إلى تلك الكومة المتراكمة، وفي كل دقيقة ينشأ شيء جديد ليس نتيجة لمقدمة سابقة ولكنه خلق خلقاً ولا يمكن استنتاجه قبل حدوثه. فالتغير سنة الحياة وألزم صفاتها.
والذاكرة عند الإنسان هي الوعاء الذي يمتد مع الزمن فيختزن فيه هذه الصور المتراكمة المتزايدة، لكي تكون لنا عونا في حياتنا، إذ كلما اتسعت دائرة الحياة اتسع معها نطاق الاختيار، أي يعرض للإنسان مؤثرات عدة تستدعي منه سرعة اختيار للتلبية المناسبة لكل من تلك المؤثرات. وهذه المؤثرات وتلبياتها تكون في الإنسان إدراكا يستعين به في كل ما يعرض له من مشكلات.
فالكائن الحي كتلة فعالة مؤثرة. لأنه يضيف إلى العالم قوة ونشاطا، وليس الإنسان كما صوره الماديون آلة ميكانيكية لا حول لها ولا قوة، ينفعل ويتأثر بعوامل البيئة دون أن يكون مركزا للخلق والزيادة. ففي قولنا أن الإنسان مدرك لما يعمل اعتراف ضمني بحرية اختياره.
قلنا إن وظيفة الذاكرة هي استدعاء الصور الذهنية التي مرت بنا في التجارب الماضية مقرونة بما سبقها وما تلاها، فتتمكن بذلك من الحكم في المواقف المشابهة التي قد تعرض لنا، حكما صادقا. ولكن للذاكرة فوق هذا عملا آخر، فبوساطتها نستطيع أن نستوعب الخلود بأسره في دقيقة واحدة، وفي ذلك تحرير لنا من قيود الضرورة الطبيعية التي تخضع لها الأشياء الجامدة. يخطئ إذا من يحسب الإنسان آلة صماء في يد القوانين المادية، إنما هو كائن مدرك، حر الإرادة، قادر على اختيار سلوك معين؛ والاختيار خلق وإنشاء، فليس الإنسان رتيبا في حياته كالحيوان المحدود بغرائزه.