وإذا فليس العقل والمخ (أي الجسم) شيئاً واحداً؛ صحيح إن الإدراك العقلي يعتمد على المخ، يسمو وينحط تبعا لسلامة هذا أو انحطاطه، ولكن كما تعتمد ملابسك على المشجب. تظل عالية ما دام المشجب مثبتا في الحائط، وتهوي إذا ما سقط من مكانه، وبديهي أن ذلك لا يدل على أن الملابس والمشجب شيء واحد.
فالمخ مجموعة من التصورات وردود الأفعال، أما الإدراك فهو تلك القوة التي تختار من بين تلك المجموعة ما تريد. المخ هو المجرى الذي يسير فيه تيار الإدراك، ولكن ليس الماء ومجراه شيئاً واحداً، وأن يكن ذلك محدودا بهذا، ولا بد له أن يخضع لإلتواءاته وتعاريجه.
وإذا كان هذا هكذا، فما الذي حدا بنا إلى الاعتقاد بأن العقل والمخ شيء واحد؟ لعل ذلك راجع إلى أن جزءاً من عقولنا، وهو ما نسميه بالذكاء، قد نشأ وتطور لكي يمارس الأجسام المادية ويتفهمها، فاكتسب من هذا الميدان المادي كل تصوراته وقوانينه، وهكذا أخذ الارتباط الذهني بين العقل والمادة ينمو شيئا فشيئا، حتى انتهى بنا الأمر إلى الظن بأنهما شيء واحد؛ ولكن هذا الذكاء الذي يكشف لنا عن العلاقات التي تصل المظاهر الكونية بعضها ببعض، عاجز كل العجز عن إدراك الامتداد الزمني وما يعرض فيه لتلك المظاهر من تغير وخلق، أو بعبارة أخرى هذا الذكاء الذي يفكر في الصور المادية لا يستطيع أن يدرك ما في الكون من حياة، لأنه يلتقط صورا متلاحقة بعضها يجيء في إثر بعض، أي أنه يلتقط صورة الكون في هذه اللحظة، ثم صورته في اللحظة التي تليها، ثم صورة ثالثة في التي تليها وهكذا، ومعنى ذلك أن العالم الخارجي في نظر العقل عبارة عن جملة صور لحظية تملأ كل صورة منها الكون بأسره؛ هذه الصور تتلو الواحدة منها الأخرى لحظة بعد لحظة، وكل صورة لحظية من هذه الصور تمثل الحقيقة الخارجية من أول الماضي إلى آخر المستقبل. الا أن تلك الصور تظل مستقلة في الذهن، لا يتناولها الاستمرار أو الحركة التي تربطها جميعاً، مع أن الحياة ليست الا في وصل هذه الصور المجزأة. مثل العقل في ذلك كمثل الشريط السينمائي الذي يلتقط عددا من الصور المتلاحقة، لا حياة في كل منها على حدة، فإذا ما دبت فيها الحركة والاستمرار، واتصل بعضها ببعض، كونت حياة، أو شيئاً يشبه الحياة. ولن يكون في هذه الصور التي تصلنا عن طريق الحواس شيء من