الإنسان! إنما هي مربع من الأرض على قدر ما يتسع له فناء كبير في
منزل فخم، يشقها ممشيان معروشان قد تعارضا على شكل صليب
قسماها إلى أربعة أقسام سواء، وفي هذه الأقسام وما أُلحق بها قام دوح
السدر، وبسق سرح الكافور، وانتظمت على جوانب مماشيها أشجار
النارنج، وانتثرت على معظم أرضها ألوان قليلة من النَّور الجميل
والورد العطر. فسماؤها كما ترى للشجر وأرضها للدهر وجوها
للعطر وهي كلها لنوع من الجاذبية يجعلها على بساطتها فتنة الفنان
وجنة المفكر!
ليت شعري ما مصدر هذا السحر الذي يشع في عيني ويشيع في نفسي كلما دخلت هذا المكان؟ أهو ذاك البناء المتآكل الذي يقوم في جنوبيه كأنه المعقل البالي أو الدير المهجور، أم هو ذلك النهر الجميل الذي يجري في غربيه كأنه الزمن الدافق أو الكتاب المنشور، أم هو ذلك المزيج العجيب من جلال القدم في المكان وجمال الطبيعة في البستان وعظمة الحياة الماثلة في النهر؟؟
ليس للروح العسكري في هذا المكان الشعري مظهر ولا أثر. فما تعهده من الخشونة في الثكنات، والعنف في الحركات والقسوة في النظرات والكلمات، يحول هنا إلى ذوق فنان ورقة شاعر وهدوء فيلسوف!
كادت هذه الخواطر الجريئة الملحة تذهلني عن حديقتي واليوم عيد من أعياد الطبيعة برزت فيه عارية من الحلل غانية عن الحلي! والخريف في العراق هو الربيع احترقت غلائله الوردية في لظى يوليو!! فهو على تجرد أرضه من الأنوار والازهار، وتحجُّب سمائه أحياناً بالغيم وأحيانا بالغبار، جميل البسمات عليل النسمات رفاف الأديم. فها نحن أولاء بين أعقاب الخريف وطلائع الشتاء والشمس لا تزال في ثغر السماء ابتسامة حلوة! تضاحك النهر الحبيب فتزيده طلاقة. وتداعب الزهر الكئيب فتكسبه أناقة، وتطالع الجو المقرور فتقبسه حرارة، وتصارع برد الموت في أوراق النارنج وأطراف التوت فتطيل