بقاءها فترة أخرى من الزمن! وهذه اليمامات السواجع، مازلن يأوين إلى أعالي الشجر يمرحن في الضوء وينعمن بالدفء ويهتفن بالأهازيج كأنهن في أمَنَةٍ من حلول يناير وهو منهن على ليال قلائل!! وهذا دجلة السعيد يتنفس موجه بالنعيم، ويطفح غرينه بالذهب، ويقذف تياره بالغثاء والزبد، بعد ما بخره القيظ فنش حتى انكشف ضميره، وانقطع خريره، وكاد يزحف الشبوط والزورق فيه على القاع! فالبواخر تصعد صافرات في سرعة، والأطواف تنحدر صامتات في بطئ، والقفف تعبر موقرات في هوادة، وقوارب الصيادين وزوارق الملاحين تتعارض وتتحاذى في عباب النهر كأنها الخواطر الحائرة في الفكر العميق، والطيور الصائدة تحوم على وجوه الماء بأجنحتها الشهب حومان الآمال على ستر الغيب الصفيق، والبجعة الملكية تطعن في صدور الموج بمنقارها الطويل العريض وهي تسبح آمنة في حمى البيت العتيق، وأنفاس دجلة اللاهث من عبء القرون تتصاعد إلي حاملة أنين الأمواج وخفق المجاديف وغماغم الكرخ فتختلط بتجاوب اليمام على الشجر، وتناوح الرياح بين الغصون، وحشرجة الاوراق الذاوية على الارض، فتتألف من هذه الأصوات الخافتة موسيقى روحية شجية تبعث رواقد الأحلام وتثير كوامن الآلام وتقطع بين النفس وبين وجودها الحاضر!!
أيه يا دجلة يا سجل الأمم وراوية العصور! لشد ما فنيت في خريرك ضحكات، وامتزجت بنميرك دموع، وخفيت في ضميرك أسرار!! لقد رأيتك بالأمس ضارعا قد لصق خدك بالأرض حتى همّ بخوضك الخائض، وهمدت حياتك حتى أوشك أن يسكن عرقها النابض، ثم رأيتك اليوم وقد غاثك الغيث فجاشت ينابيعك الثرة بالنماء والثراء والقوة، ثم أقبلت كدأبك منذ آلاف السنين داوي الدارات صخاب اللج تعرضها مُلحا على بنيك فيعرضون عنك إعراض البطر، ويؤثرون على فيضك الميمون وذق المطر، ثم يهينون كبرياءك يا أبا الحضارات فيجعلون مبلغ همك حمل الأرماث ونقل القُفف! فهل يعجبون إذا فار غضبك فجرفت السدود وجاوزت الحدود وأصبتهم بالغرق؟. . . . .