للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

هذه الطريقة لم تصن الجسد. فلما قويت عقيدة البعث في النفوس وازداد تأثيرها في العقول، أظهروا احتراما أعظم للموتى، فوضعوا فروع الأشجار على هيئة صندوق خشبي داخل القبر، كما دفنوا مع الميت بعض أنواع الطعام التي كانوا يظنون أن الروح تطعم منها، ولكن سريعا ما كان يتآكل الخشب، ويعتري الجثث الانحلال، مما دفع قدماء المصريين في صيانة جثث الموتى ما عرفوا صناعة الطوب اللبن، أو لتأخرت صناعته بعض الأجيال، ولا شاع بناء مختلف المباني من منازل وغيرها من هذا الطوب. ولكن الطوب اللبن ليس من المتانة بحيث يقوى للصمود حتى يوم البعث، فأستبدل به الأحجار الجيرية التي استخدمت في بناء المصاطب. وأحدث بناء المصاطب من الأحجار الجيرية ثورة خطيرة في فن البناء، ساعدت على ظهور بعض العلوم الرياضية من حساب وهندسة، وضح أثرها في إقامة الأهرام التي يحتاج تشييدها إلى مهارة معمارية تستعين بالفن الهندسي، وتستند إلى عمليات حسابية دقيقة. وهكذا كان الحافز الديني لحفظ الموتى من التلف من أهم البواعث التي عملت على تقدم فن المعمار، ووجهت اهتمام المصريين إلى وضع أسس علمي الحساب والهندسة.

ولم تقف عناية الفراعنة بالموتى عند حد بناء مقابر متينة تحميها، وإنما امتدت هذه العناية كذلك إلى الجثث نفسها، واجتهدوا في سبيل الوصول إلى عقاقير تحفظها من الفساد، فاكتشفوا التحنيط معجزة العلم الفرعوني. ولقد أتاحت عمليات التحنيط من نزع المخ وفتح الجنب وإخراج الأحشاء وغسل البطن بعقاقير خاصة ثم خياطة الفتح، فرض دراسة جسد الإنسان، ومعرفة كثير من أجزائه ووظائفها، والإقدام على إجراء كثير من العمليات الجراحية المتنوعة، كما هيأت الظروف لفحص خواص بعض النباتات العلاجية لإعداد العقاقير وتركيب الأدوية التي تدفع عن الإنسان المرض. وعلى هذا النحو حثت عقيدة خلود الروح على اكتشاف فن التحنيط الذي مهد إلى تقدم الطب وفن الجراحة في عهد الفراعنة تقدما فاق تقدم جميع الشعوب التي عاشت في العصور القديمة.

وبالرغم من كل هذه الاحتياطات لم يطمئن قدماء المصريين كل الاطمئنان إلى متانة المقابر، أو يثقوا كل الثقة في مهارتهم في التحنيط، واعتقدوا أن جثث الموتى ما زالت عرضة للتلف، فاستعانوا بآلهتهم، وطلبوا منها العون والمساعدة لتحفظ أجسادهم من البلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>