من الحقيقة الواقعة، وأن يكتفي بالإيماء إذا كان غيره لا يكتفي إلا بالصيحة العالية، وأن يهرب من الطاعون قبل أن يهرب منه المستريحون المطمئنون إلى العيش الواثقون بالمصير
وكان شوبنهور يبغض الحياة ويستمتع بلذاتها، فكيف يكون التوفيق بين البغضاء والاستمتاع؟
هما كذلك شيء واحد في الحقيقة. فلولا أنه يحب الاستمتاع بها لما أبغضها، ولولا أن الرجل يعرف لذة المعشوقة لما استعرت في نفسه بغضاؤها حين يحال بينه وبين متعتها كما يشتهيها، ولولا الإحساس المرهف لما كان الألم ولا كانت الحاجة إلى الترفيه عن النفس المتألمة بالإقبال على اللذات والتشاغل بالسرور، فإنما اللذات هنا ترياق لا يحتاج إليه إلا من هو مريض في المستشفى، بل هو مرقد لا يحتاج إليه إلا من فارقه الرقاد ولازمه السهاد
وكان شوبنهور ينفر الناس من الدنيا ويحرص على ماله ولا يفرط فيه، فكيف يكون التوفيق بين مذهب التنفير ودافع الحرص الشديد؟
هما أيضاً شيء واحد في بواطن الأمور
فالحرص على المال علامة بعض حالاته على الحذر الشديد من الناس، وقلة الركون إلى الوفاء والإخلاص والمعونة من الأصدقاء والأقرباء، فإذا افتقر إليهم فهو على يقين أنهم لا يسعفونه ولا يحفلون بما يصيبه، وإذا نظر إلى المستقبل فهو على يقين أنه سيفتقر أو يستهدف للنكبات والمتاعب، لعظيم خوفه من العواقب وإشفاقه من غدرات الحوادث، وعلى قدر هذا الخوف وهذا الإشفاق يكون الحرص على المال الذي ينفعه حين لا ينفعه صاحب ولا قريب
وكان شوبنهور عبوس الرأي مشرق الفكاهة كثير التنكيت والتبكيت، فكيف التوفيق بين الخصلتين؟
لا ضرورة إلى الإِطالة في التماس التوفيق بينهما، فهما متفقتان لا تتعارضان
فالمرهف الإحساس يتألم، والمرهف الإحساس يفطن للفارق الدقيق بين طوايا الناس ودعاواهم، وهذا - أي الفارق الدقيق بين الطوايا والدعاوي - هو ينبوع التهكم الذي لا