ينضب ومبعث الفكاهة ومادة (القفش) كما نقول في لغتنا نحن المصريين
والمرهف الإحساس من جهة أخرى يشعر بالألم فيحتاج إلى الضحك والسخرية وعنده المادة موفورة كما أسلفنا، فيتزود منها حيناً بعد حين بما يريحه إذا التمس الراحة، وما يصول به على خصومه إذا تعاوروه بالإساءة والإيذاء، وهو يتهمهم أبداً بأنهم يفعلون ذلك وإن لم يفعلوه
ومن راقب إخوانه وعشراءه عرف بالتجربة والمشاهدة أن النكتة المريرة أنفذ وأمضى وأدعى إلى المفاجأة من نكات المرح والخفة والمجانة، ولا سيما إذا اقترنت بالذكاء الثاقب والخبرة الواسعة والاطلاع الموفور، وكل أولئك كان من خصال شوبنهور ولوازم طبعه، ولو ضعفت مرارته لضعفت فكاهته على خلاف المنظور في ظواهر الصفات
وهكذا يؤدي بنا تطبيق المنطق على الخلائق الإنسانية إلى نقيض المتبادر من قريب، فنستغرب الأمر لأول وهلة ثم نمضي قليلاً إلى ما وراء ذلك فإذا المستغرب هو المألوف، وإذا المألوف فيما زعمنا أولاً هو الغريب البعيد
وخطأ أن يقال إن منطق العواطف غير منطق العقول. . . كلا! بل هما منطق واحد في جميع الحالات، وكل ما هنالك أننا لا نستحضر وجوه المقارنة جميعاً إذا بحثنا في ظواهر العواطف والأخلاق، فإذا استحضرناها وجمعنا أسبابها فالحكم على كل حال لا بد أن يطرد ويستقيم
وهكذا نصنع إذا حكمنا في قضية لها عشرون شاهداً من الجانبين ولم نسمع إلا خمسة شهود من جانب واحد. فهل يجوز لنا إذا اختل حكمنا أن نقول إن منطق القضايا المدنية أو الجنائية غير منطق العقول؟ كلا. بل نقول إن منطق واحد لا تناقض فيه، ولكننا نحن نسينا أسبابه وأغفلنا جوانب الحكم والمقابلة
من هنا يتبين لنا أن (شوبنهور) يعرض لنا صورة منسوقة من سيرته وفلسفته، وأن شذوذه هو اللون الصادق في جلاء تلك الصورة والموافقة بين أنوارها وظلالها، وأنه ابن مزجه وتكوينه في كتبه وفي حياته، كما كان ابن زمانه وأسرته وبلاده وما اختبره واطلع عليه
وما من رأى في كتب الفيلسوف إلا وله مرجعه إلى حالة من حالات زمانه أو دخيلة من دخائل بيته، فقد رأينا كيف علمه سقوط نابليون أن العمل للإرادة وأن الإرادة إلى فشل