للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

السماء كمثل السحاب، يمنع الشمس، ويحجب المرئيات، ولا يمنع منه شيء، فهو يدخل الغرف مهما أحكمت إغلاق الباب وضبطت النوافذ، وينفذ من خلال الثياب مهما كانت حصيفة محكمة، ويخش في العيون والمناخر والآذان، وفي أصول الشعر، ويمر إلى أجواف الصناديق، وبطون الخزائن، وقلوب الساعات. . . بل إنه لدقته وخفته وسرعته ليكاد يدخل في نفسه. . .

وكان على صاحبنا أن يغدو إلى عمله في بغداد، وكان ينزل ضاحية من ضواحيها، فتردد ثم لم يجد من الأمر بداً، فتحزم وتدثر، وتعطف بمعطفه الثخين، والتحف فوقه بالممطر (المشمع) يتقى به المطر، ولف شملة على عنقه، ولبس قفازيه، وأخذ عصاه فتوكأ عليها؛ وسار الهويني، لا يطيق حراكاً، لكثرة ما يحمل من ثياب، ولطول الطريق، وشدة الرياح، وما به من الضعف والإعياء.

وكان وحده في طريق (الصليخ)، لم يجد سيارة يركبها، ولا قوماً يصحبهم، فنزل ماشياً، وكان الطريق طويلاً على طرفيه النخيل، تعبث به الرياح فتميل بجذوعه وتحرك أغصانه. فتفرقها ثم تجمعها، فتبدو كأنما هي مراوح ضخمة، تحركها يد لا ترى، فتروح بها على وجه الدنيا، وكانت تظهر أوائلها، وتغيب أواخرها في هذا السحاب الترابي الذي يغطى على كل شيء، ويصل الأرض بالسماء، فترى الطريق كأنه صاعد إليها، أو تراها كأنها هابطة إليه؛ وكانت الرياح زعزعاً شديدة، تميل بالأشجار وتعصف بالغصون، ولم يكن ثابتاً وسط الرياح إلا صاحبنا بعصاه وضعفه وأحماله. . . ولحظ ذلك من نفسه، وأعجبه أن يلحظه ويفكر فيه، وعراه شيء من الاعتداد بالنفس، وازداد حتى ملأه الشعور بقوته، فجعل ينظر في عطفيه زهواً وتيهاً، وجعل يتأمل دخيلته، ويفكر في نفسه؛ من هو؟ وما هذه الحياة التي يحياها؟. . .

واشتدت الرياح وعزفت، ثم صفرت صفيراً، فلم يبال بها ولم يحفلها، لأن زوبعة أخرى أشد هولاً قد هبت في نفسه. . . تنطح هذا الحب وتريد أن تنسفه. . . فوقف يفكر: لماذا يضيق حياته بيده؟ لماذا يعطل فكره وملكاته؟ أكل ذلك لأنه وجد إنساناً جميلاً ظن أنه يحبه؟

لتكن جميلة أو قبيحة، ما شأنه هو بها؟ ومن قال إنه لا يعيش إلا بها؟ ماذا كان يصنع قبل

<<  <  ج:
ص:  >  >>