علمياً فخماً كالذي خلفه لنا الأجداد. . . فماذا يعمل هؤلاء؟ ومن أين لهم العقل الذي يدرسون به، والهمة التي يؤلفون بها، وعقولهم ضائعة في البحث عما يملأ معدهم الجائعة، ويستر أجسادهم العارية، وهممهم مصروفة إلى ضمان الكفاف، والحصول على ما يتبلغون به؟
لقد قال الشافعي رحمه الله منذ الزمن الأطول: لو كلفت شراء بصلة، ما تعلمت مسألة. . . فكيف يتعلم ويدرس ويؤلف من يكلف شراء الرغيف، وشراء ثمن الرغيف؟
إني أعرف كثيرين ممن يؤمل لهم أن يبرعوا في الأدب، ويتفوفوا في العلم. قدر الله عليهم الفقر والإفلاس، وعلق بأعناقهم أسراً عليهم إعالتها، والسعي في إعاشتها، فألقوا القلم والقرطاس، ورموا الدفتر والكتاب، وخرجوا يفتشون عن عمل. . . يطلبون وظيفة؛ غير ان الطريق إلى الوظيفة وعر ملتو طويل، لا يقدر على سلوكه، ولا يبلغ غايته، إلا من حمل معه تميمة من ورق (البنكنوت) يحرقها أمام أبواب الرؤساء لتخرج شياطينها فتفتح له الباب. أو صحب معه (الشفيع العريان) وأين من هذين الشاب النابغ المفلس الشريف؟ ثم إنه إذا بلغ الوظيفة وجدها لا تصلح له ولا يصلح لها، وضاقت به وضاق بها!
أعرف كثيرين من هؤلاء يظهرون فجأة كتاباً مجددين، وشعراء محسنين، وعلماء باحثين. فما هي إلا أن تنزل بهم الحاجة وتنيخ عليهم (هموم الخبز) حتى تقطعهم عما هم فيه، ثم تذوي ملكاتهم وتجفف قرائحهم وتتركهم يموتون على مهل، ويموت بموتهم النبوغ، وأرباب الأقلام وأصحاب الصحف يشهدون مصارعهم في صمت وإعراض، لا يهتمون بهم، ولا يظنون أن عليهم واجباً تلقاءهم، حتى إذا قضوا قاموا يطنطنون بذكرهم ويشيدون بمواهبهم، ويركبون على قبورهم ليقولوا للناس: انظروا إلينا. . .
هذه هي علة الشرق.
إني عهدتك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي
ورحم الله القاضي عبد الوهاب المالكي، خرج من بغداد فخرج لوداعه عشرون ألفاً، يبكون وينتحبون فقال لهم: يا أهل بغداد، والله ما فارقتكم عن قلى ووالله لو وجدت عندكم عشاء ليلة ما فارقتكم، وهم يبكون وينتحبون ويصرخون: إنه يعز علينا فراقك، إننا نفديك بأرواحنا، يا شوقنا إليك! يا مصيبتنا بفقدك. . .!