الرأس، أستمع - بحزن صامت - إلى هذا النواح المتواصل، وهذا البكاء الطويل، ورأيت - والله - أن هذا الدمع الغزير، يغسل من النفس أوزارها، ويشيع فيها الصفاء والنور، ويجعلها بيضاء نقية، وادعة كالحمل، عذبة كالماء، جميلة كالزهر، فواحة كالعطر. . . ونظرت بعيداً بعيداً. . . إلى ما وراء الأبد. . . وقلت لنفسي: لو أن هذا الإنسان القاسي الذي يسعى للمال الكثير والجاه الوفير، والسيطرة والطغيان، متخذا لذلك أعنف الأسباب وأقسى الوسائل. . . لو أنه يختلف كل أسبوع، أو كل شهر، إلى هذه المقابر، ليتلقى منها دروس الرضى والقناعة، والمحبة والصفاء. . . لكن هذا الضجيج، وهدأ هذا العجيج، وعاش الناس سعداء هانئين، تظللهم المحبة، ويرفرف عليهم السلام. . .
ووثب إلى ذهني حينذاك جواب ذلك الفيلسوف الصيني العظيم (كونفوشيوس) حين كتب إليه بعض تلاميذه: (إني أرى للناس أخوة وليس لي أخ)! فأجابه بقوله: (إن الإنسان الكامل ينظر إلى جميع من يسكنون بين المحيطات الأربعة كما لو كانوا اخوته. . .)
قلت لنفسي بعد أن رددت هذا الجواب كثيراً: لو أن الناس جميعاً كانوا هكذا لاختفت من الدنيا هذه الحروب، وانطوت - إلى الأبد - هذه المآسي والكروب. . . ووثبت إلى ذهني - مرة أخرى - محاورة ممتعة بين (بوذا) وتلميذه (برنا)، تصور ما كان يحويه هذا من نفس طيبة، وخلق كريم، وتسامح عظيم، وحب للإنسانية، ورحمة لها وعطف عليها:
بوذا: إنك يا برنا مسل إلى شعب غضوب قاس متوحش سفيه، فلو أنهم بادروك بالسب واللعن، فماذا يكون رأيك فيهم؟
برنا: أرى إنهم أناس طيبون، لأنهم شتموني ولم يضربوني بيد ولا بحجر!
- فإن ضربوك بيد أو حجر؟
- أرى إنهم أناس طيبون، لأنهم ضربوني باليد أو الحجر، ولم يضربوني بعصاً ولا بسيف!
- فإن ضربوك بالعصا أو بالسيف؟
- أرى أنهم أناس طيبون، لأنهم ضربوني بالعصا أو بالسيف ولم يقضوا على حياتي!
- فإن قضوا على حياتك؟
- أرى أنهم أناس طيبون رحماء، لأنهم خلصوا روحي من هذا الجسم المليء بالأدناس