للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بأقل ما يمكن من الألم!

- هذا حسن يا برنا! وإنك لخير من يستطيع أن يعاشر تلك الشعوب البربرية. . . اذهب يا برنا فإنت الخالص فخلص غيرك وأنت المعزي، فعز غيرك، وأنت الواصل إلى النرقانا، فاذهب وادع إليها الآخرين!

وانصرفت بهذه الوثبات الذهنية عمن حولي، ولم أعد أبصر التياع الباكين والباكيات، أو أسمع صوت النائحات الحزينات، ولم يردني إلى الواقع الدامع، إلا امرأة معفرة الوجه بالتراب، ممزقة الثياب والحجاب، يمشي خلفها شاب دامع العينين، قد اتشح بالسواد، فجثا على أحد جانبي القبر يبكي ويمرغ به وجهه، وجثت المرأة على الجانب الآخر تنتحب وتولول، وكان مشهداً محزنا رأيت فيه عيني تسحان بالدموع. . وبعد قليل رأيت المرأة وقد غابت عن وعيها، وفقدت صوابها، ونظرت إلى ذلك الشاب بعينين دامعتين جاحظتين قد اختلطت فيهما نار الحقد بدموع الأسى. . . ونهضت إليه، وأهوت بيدها عليه تضربه، وهو ساكت ساكن لم يرفع بصره إليها، ولم يحاول أن يفر من أمامها، ونظرت إلى صاحبي ومن حولي، فإذا بهم جميعاً يبكون، وألسنتهم تتمتم قائلة: (لا حول ولا قوة إلا بالله. . .)

أخذت بيد صاحبي ونهضت والدهشة ملء نفسي، والألم يحز في فؤادي، ولم يغب عن فكري أنها مأساة باكية، بيد أني لم أفهم منها شيئاً، وبقيت صامتاً أمشي بين القبور رويداً رويداً وأبو العلاء يصيح في أذني:

سر إن أسطعت في الهواء رويداً ... لا اختيالا على رفات العباد

رب لحد قد صار لحداً مراراً ... ضاحك من تزاحم الأضداد

وما إن ابتعدت عن المقبرة، وغاب عن بصري مرأى الصيوان، وانقطع عن سمعي صوت البكاء والنواح حتى التفت إلى صاحبي قائلا:

- يبدو أن ما رأيته فصل محزن من مأساة دامعة وقصة باكية:

فتنهد صاحبي وجفف بمنديله دموعه. . . ثم قال:

- لعلك - يا صاحبي - لم تشهد من هذه المأساة إلا أقل فصولها ألماً، وأيسرها حزناً. . . أتذكر - يا صاحبي - ذلك الشاب الوادع الهادئ الظريف الذي كان يملأ المجالس أنسا وصفاء، والذي كان زهرة عطرة بين أترابه، ونجمة لامعة بين أصحابه. . . جميل؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>