في مطالبات عنيفة بالحريات الدستورية. وكانت الحروب البونابارتية قد شغلت أوربا حينا عن التفكير السياسي وخبت الريح الحرةالتي إثارتها مبادئ الثورة الفرنسية، ولكن الجيوش الفرنسية الغازية كانت تحمل أينما حلت طرفا من هذه المبادئ، فلما هدأت العاصفة التي أثارها نابليون، عادت الأفكار الحرة والأماني الدستورية تشق سبيلها في معظم الأمم الأوربية، ومن ثم كان اجتماع العروش القديمة على مقاومتها وسحقها. وقد انظمت معظم الدول الأوربية إلى المعاهدة المقدسة، وطبقت غير بعيد في ألمانيا والنمسا حيث قيدت حرية الصحافة، وفرضت الرقابة الرسمية على الجامعات، ولكن هذه الجبهة القوية التي نظمها الطغيان لمقاومة الحريات الشعبية لم تغن شيئاً، ولم يمض ربع قرن آخر حتى كانت معظم الدول الأوربية تضطرم بالفورات والثورات التحريرية، وكانت القوى الرجعية ترغم بذل المنح الدستورية المختلفة. وقد استمر هذا الصراع بين الطغيان والديمقراطية طوال القرن التاسع عشر، وانتهى بظفر الحريات في معظم الأمم الأوربية.
ونحن اليوم نشهد هذا الصراع كرة أخرى. ولكنه يتخذ اليوم صورة جديدة. فالقوى الرجعية لا تستند اليوم إلى العروش والحق الالهي، ولكنها تتشح بأثواب شعبية، فالفاشستية تزعم في إيطاليا وألمانيا أنها تقوم بإرادة الشعب وتسير طبقاً لها؛ وتخشى أن تبدو مجردة في ثوبها الحقيقي؛ وهذا دليل على أنها رغم ظفرها المؤقت ما زالت تخشى قوة الديمقراطية الخفية. ونحن ما زلنا نؤمن بمستقبل الديمقراطية وقوتها. وإذا كانت الديمقراطية قد استطاعت أن تصمد طوال القرن الماضي لجميع القوى الرجعية التي هاجمتها وقاومتها مع أنها لم تكن قد استكملت يومئذ كل نموها وقوتها، فأنها اليوم قد رسخت مبادؤها ومثلها في جميع الأمم الأوربية وأقامت لها صروحا قوية شامخة، وأضحت قوام الحياة العامة في كل بلد، لا يمكن أن تستكين طويلا إلى عدوان الطغيان، ولا بد ان تنهض غير بعيد من عثرتها، وتستعيد كل قوتها وسلطانها، يوم تنفض عنها غبار هذه المفاسد الشكلية التي أسبغت ريبا على هيبتها، ويوم تنبذ ذلك الخلاف الذي فت في قواها ومكن لخصومها.