قبل أن تثبت أقدامها وتفرض إرادتها على الشعب الإيطالي، ويكفي أن نستعرض ما ارتكبه الاشتراكية الوطنية الألمانية مذ ظفرت بالحكم من ضروب السفك والعنف والانتهاك والمطاردات السياسية والدينية الوضيعة، لتفرض مبادئها وإرادتها على الشعب الألماني، وهذه الوسائل الهمجية التي تلجأ إليها الفاشستية دائما في تحقيق سيادتها حيثما استطاعت أن تشق طريقها لا يمكن أن ترتفع من الوجهة المعنوية إلى مستوى المثل الرفيعة والوسائل السلمية الحرة التي تقوم عليها الديمقراطية وتعمل في ظلها. وما يلاحظ إن الفاشستية شعوراً منها بهذا الضعف المعنوي تحاول أحياناً أن تستتر وراء بعض المظاهر الديمقراطية، فنرى الفاشستية الإيطالية مثلا تحتفظ بالبرلمان حينا وتبقى على بعض صور الحياة النيابية، وتستخدم فكرة النقابات؛ ونرى الفاشستية الألمانية (الاشتراكية الوطنية) تجري الانتخابات وتتظاهر باستفتاء الشعب في الحصول على تأييد أغلبيته الساحقة لتحقق بعض أغراضها السياسية. وقد تتفوق الفاشستية على الديمقراطية أحياناً بالعمل السريع وتحقيق بعض المظاهر والغايات السياسية والاقتصادية التي عجزت الديمقراطية عن تحقيقها، كما حدث في إيطاليا مثلا حيث حققت الفاشستية الإيطالية كثيراً من الأغراض والنتائج العملية القيمة، ولكن هذا النجاح المادي يحقق في معظم الأحيان على حساب الحريات والحقوق الشعبية، وليست وسائله مما يحمد دائماً.
لقد انتصرت القوى الرجعية على الديمقراطية في إيطاليا وألمانيا والنمسا: وقد تنتصر في غيرها غدا، وربما بقيت الديمقراطية أعواما أخرى تعانيالضعف والانحلال. ولكن هذه الفوضى الرجعية لا تقوم على مثل راسخة، ولا تستمد بقائها إلا من القوة المادية وهي في الغالب وليدة ظروف وعوامل مؤقتة، فمتى تطورت هذه الظروف والعوامل فقدت أسباب الحياة ,. والتاريخ يعيد اليوم نفسه في أوربا القديمة. ففي أوائل القرن الماضي، على اثر انتهاء الحروب البونابارتية، اجتمعت كلمة العروش الأوربية القوية على سحق جميع النزعات والحركات الحرة، والتمست لذلك عقد محالفة عرفت بالمحالفة المقدسة (أواخر سنة ١٨١٥) عقدت بين قياصرة روسيا وألمانيا والنمسا، واتخذت في المبدأ صبغة ميثاق للعمل على تأييد السلام، وإقامة العدل، وبث الإخاء، ولكنها نظمت وعقدت في الواقع للتعاون على إخماد الحركات الحرة التي آخذت تضطرم من غرب أوربا إلى شرقها، وتبدو