كلمتان هما آخر ما نطقت، كلمتان قلبتا العيد مأتما، كلمتان حولتا شابة مليئة بالحياة والنشاط إلى جثة هامدة لا تحس ولا تشعر واجتمع الأهل والصحب والخلان حول ضحية العيد، منهم من أسعفه البكاء فبكى، ومنهم من حيرته الفاجعة فذر بلسانه بأسبابها وصاح يستلهم الجثة جواباً عما حير فكره وصدع قلبه. ومنهم من وجم يستعرض في وحدته صورا تتتالى فلا تشعر ارتباطا في تتاليها ولا أثراً لمرورها في مخيلته. وأخيراً منهم من اختل توازن أعصابه وفقد القدرة على حكمها، فراح لسانه ينطق بكل ما يمر في خاطره المضطرب المحموم وفي الصباح جاءتها صديقاتها بورودهم البيضاء وكأنهم آتون لعرسها، ثم أودعوها حفرة ضيقة وعادوا جميعا وكل منهم يظن انه في حلم مروع يتلمس اليقظة منه فلا يصحو. ومتى كانت الحياة إلا رؤى تتتابع! رؤى نراها أفرادا فنختلف في حقيقتها، ورؤى نراها جماعة فنجمع على حقيقتها؟
أودعوها حفرتها، أودعوها سرى معها، ولكن متى دخل لسان الناس أفواههم؟ متى استراح لسان الناس في اشد المواقف استدعاء للاستراحة؟ هل احترموا جلال الموت؟ هل خشعوا أمام فجيعة مريرة للأسرة بأجمعها؟ كلا! لم يخلق اللسان إلا للكلام، فإذا سكت لم يحقق الغرض من خلقه، وإذا لم يحقق جزء من المخلوقات الغرض من خلقه فقد اختل نظام الكون كله!
وفي العيد تجتمع الأسرة لا على مائدة الإفطار وإنما حول قبرها في مدينة الأموات الهادئة، وهناك تناديها فلا تجيب كما كانت تفعل منذ عام، وهناك تبكيها فلا تشاركها شعورها كما شاركتها الابتسامة والفرح منذ عام، وإنما ترفرف روحها من عليائها رائحة غادية لا ترتبك ولا تضطرب، فليس لديها ما تخفيه وقد حجبها الفناء بأستاره الكثيفة المظلمة.