ويعتدى عليها. وظهر أثر هذه السياسة في أواخر حكم الناصر إذ ظهرت أعراض الوهن والانحلال في الجيش؛ ثم ظهر خطرها على العرش فيما بعد إذ غدا عرضة لمطامع المتغلبين والمتنافسين.
تلك هي قصة هذه السفارة الشهيرة التي وجهها الإمبراطور أوتو الكبير إلى عبد الرحمن الناصر، وتشير الرواية الإسلامية إليها في عبارات موجزة مما يدل على أنها لم تفطن إلى أهميتها السياسية والاجتماعية، ذلك لأنها كانت سفارة من نوع خاص ولم تكن متعلقة بالشؤون والعلائق الدبلوماسية العامة، ولم تكن الإمبراطورية الألمانية الناشئة مشهورة في بلاد قرطبة شهرة الدولة البيزنطية أو مملكة الفرنج، ولكن التفاصيل الشائقة التي تقدمها إلينا الرواية الكنسية تدلى بأهميتها وطرافتها، وأول ما تدل عليه ما كان لبلاط قرطبة في عهد الناصر من الهيبة والنفوذ حتى في دول كألمانيا لم تكن تربطها بالأندلس مصالح أو علائق دبلوماسية مباشرة؛ بيد أن أهم ما تدلي به هذه السفارة هو صفة الزعامة والإرشاد التي كان يبدو بها بلاط قرطبة، فقد رأينا الناصر يلقي درساً في السياسة والإدارة على الإمبراطور أوتو، وهي صفة كان في ظروف الأندلس يومئذ ما يبرر اتخاذها، فقد كانت الأندلس عندئذ في أوج قوتها وعظمتها، وكانت حكومة قرطبة في نظمها السياسية والإدارية والاجتماعية نموذجاً لأعظم وأرقى حكومات العصور الوسطى؛ وكانت الحضارة الأندلسية في سائر نواحي الحياة العامة والخاصة مضرب الأمثال في الروعة والبهاء؛ وكانت نبراسا تمتد أضواؤه إلى أقاصي أوربا؛ وكان للزهراء عاصمة الناصر وبلاطه في الأمم الشمالية شهرة سحرية، حتى أن الراهبة السكسونية هروسويتا تغنت بجمالهما وروعتهما في قصائدها اللاتينية وأسمتها (زينة الدنيا).
والخلاصة أن عظمة الأندلس يمكن أن تقرأ في هذه الصفحات المطوية من تاريخ العلائق الدبلوماسية بينها وبين الأمم الأوربية أكثر مما تقرأ في تاريخها الخاص: ففي هذه الصفحات نجد صوراً كثيرة مؤثرة من ذلك الإجلال الذي كانت تفرضه الأندلس إبان عظمتها على أمم الغرب والشمال.