النصرانية. وكان أوتو يومئذ مشتغلاً ببعض الحروب الداخلية، فأبدى تساهلاً في قبول وجهات نظر الخليفة، ولم يثر من المجادلات ما اعتاد أن يثيره، وأكد صداقته لخليفة المسلمين. وعاد السفير إلى قرطبة يحمل إلى الناصر تحيات أوتو وتأكيداته الودية، فارتاح الناصر لهذه النتيجة، وأذن باستقبال يوحنا سفير الإمبراطور. واستقبل يوحنا استقبالا فخماً ظهرت فيه عظمة البلاط الأموي، وتحدث إلى الناصر عن مهمته وغاية سفارته. ولسنا نعرف ماذا كانت نتائج هذه السفارة، لأن يوحنا لم يحدثنا عن ذلك في روايته؛ ولكن المرجح أن وجهة النظر التي أبدتها حكومة قرطبة هي أنها ليست لها أية علاقة بالمستعمرات العربية في غاليس وسويسرا، وأنها لا تتحمل تبعة أعمالها، ولا تستطيع أن تتدخل لديها. وهو استنتاج يؤيده صمت الرواية العربية عن ذكر أخبار هذه المستعمرات، مما يدل على أن حكومة قرطبة لم تكن تعني كثيراً بشأنها، وإن كانت بلا ريب تنظر إلى غزواتها في الأراضي النصرانية بعين العطف والتأييد.
على أن الرواية الكنسية من جهة أخرى تحدثنا عما أفضى به الناصر إلى يوحنا من الملاحظات السياسية والإدارية؛ فقد بسط ليوحنا خططه في السياسة العامة، وأنحى باللائمة على الإمبراطور أوتو لأنه يضع ثقته في أشرافه؛ ومثل هذه السياسة لا تزيد الأشراف إلا غروراً، ثم تنتهي بهم في أواخر الأمر إلى العصيان والثورة. ولهذه الملاحظة السياسية التي توردها الرواية الكنسية عن الناصر أهمية خاصة، وهي ليست إلى صدى لسياسة الخلافة الأموية وسياسة الناصر ذاته؛ ذلك أن الناصر كان يعتمد في تنفيذ سياسته على طبقة الموالي والصقالبة، ولا يثق بالأشراف وزعماء القبائل من العرب. وكان من آثار هذه السياسة أن جعل الناصر بطانته من الصقالبة المستعربين، ورفع كثيراً منهم إلى مناصب النفوذ والثقة في الحكومة وفي الجيش. وكان الناصر يخشى منافسة الرؤساء ذوي العصبية ويقصيهم عن كل نفوذ، ويخضعهم لهؤلاء الصقالبة الذين اتخذهم في يده آلات طائعة تعبر عن خططه ورغباته. وكان لهذه السياسة أثرها في توطيد سلطان العرش، والقضاء على سلطة الزعماء المحليين، وعلى مطامع الرؤساء المتطلعين، ولكنها كانت من جهة أخرى خطراً على العرش إذ عرضته لسخط الأشراف والزعماء العرب، وخطراً على الجيش إذ كان سواد ضباطه من العرب الذين يعتزون بعصبيتهم ويسوءهم أن تضار هذه العصبية