وقد زعم العداة أننا فرحنا هذا الفرح لأننا أُعطينا ما لم نكن نحلم به، كالفقير المسكين إذ يطلب فلساً فيمنح ديناراً، كلا! إننا لم نأخذ إلا الأقل من حقنا. إن الجلاء ليس عجباً، وإنما كان العجب العجاب أن يكون في ديار الإسلام احتلال. العجب أن لا نحكم نحن الأرض ونحن خلقنا من أصلاب من حكموها، وورثنا القرآن الذي به دانت لهم الأرض!
ولكنا فرحنا لأن الله جعلنا نقرأ هذا التاريخ الماجد العظيم قبل أن يكتب، وأن ندرك أول الإقبال كما شهدنا آخر الأدبار، فنحن المخضرمون. . . وإذا كان نور التوحيد قد سطع من الحجاز فكانت المدينة عاصمة الراشدين، ثم مشى إلى دمشق فصارت عاصمة الأمويين، فكذلك كان مطلع شمس الحرية، بدت من الحجاز والجزيرة فكانت أول قطر لنا خلا من أجنبي، ثم امتدت أنوارها إلى دمشق. . . وهي تمشي الآن إلى القاهرة وإلى بغداد، ثم تسلك طريق الأندلس، الفردوس الإسلامي المفقود الذي سيعود، والطريق الآخر الذي يصل إلى الـ (باكستان) ديار الأطهار، فلا يبقى في ظلال المآذن كافر يحكم بغير ما أنزل الله!
وزعموا أن هذا الجلاء أتى عفوا بلاتعب، وأننا لم نرجف عليه بخيل ولا ركاب، ولولا أنها جاءت به مصلحة الإنجليز ما جاء! وكذب هؤلاء الزاعمون ولؤموا. . .
كذبوا والله. . . أَوْ فليخبروني: أجاهدت أمة على ضعفها وقلة عددها، وعلى كثرة عدوّها وقوته مثلما جاهدنا؟ إن في مصر العزيزة سبعة عشر مليوناً، وفي إندونيسية سبعين، وفي الهند مائة، ونحن لا نعدّ كلنا بدونا وحضرنا، رجالنا ونساؤنا، أكثر من ثلاثة ملايين، وقد ابتلينا بفرنسا ذات الطيش والحمق والملايين المائة والعُدَدَ والآفات. . فسلوا الفرنسيين: هل أرَحناهم يوماً واحداً من ميسلون إلى يوم الجلاء؟ أما ثرنا على فرنسا وكسرنا جيوشها في خمس مواقع؟ سلوا الجنرال ميشو القائد الذي حارب الألمان عند المارن: أما أباد حملته مجاهدون منا، لم يتعلموا في مدرسة حربية ولا درسوا فنون القتال، وغنمنا عتادها كله فلم يعد من الحملة بعد معركة المزرعة إلا مائتان وخمسون جندياً فقط! سلوا الغوطة عن معارك الزور وعما صنع حسن الخراط؟ سلوا النَبْك وجبالها، وحماة وسهولها، وجنرالات الفرنسيين عن بطولة قوادنا الأبطال، فوزي القاوقجي، وسعيد العاص، والبطل المفرد سلطان الأطرش، وعشرات وعشرات إن لم أعدهم اليوم، فما يجهلهم أحد!
أما ضرب الفرنسيون دمشق أقدم مدن الأرض العامرة بالقنابل مرتين، في عشرين سنة؟