أما أحرقوا حي الميدان وهو ثلث دمشق ودّمروه فلم ينهض من كبوته إلى اليوم؟ أما أضرموا النار في جرمانا والمليحة وزبدين وداريا ودير بحدل والهيجانية والغزلانية وتلّ مسكن ودير سلمان وقرى أخرى لا يحصيها من كثرتها العدّ؟
بل سلوا شوارع دمشق ودروبها وساحاتها، عن إضراباتها ومعاركها ومظاهراتها؟ أما لبثت في مطلع سنة ١٩٣٦ خمسين يوماً مضربة لا تجد فيها حانوتاً واحداً مفتوحاً، مقفرة أسواقها كأنها موسكو حين دخلها نابليون، فتعطلت تجارة التاجر، وصناعة الصانع، وعاش هذا الشعب على الخبز القفار، وطوى ليله من لم يجد الخبز، ثم لم يرتفع صوت واحد بشكوى، ولم يفكر رجل أو امرأة أو طفل بتذمر أو ضجر، بل كانوا جميعاً من العالم إلى الجاهل، ومن الكبير إلى الصغير، راضين مبتهجين، يمشون ورؤوسهم مرفوعة، وجباههم عالية، ولم نسمع أن (دكاناً) من هذه الدكاكين قد مس أو تعدى عليه أحد، ولم يسمع أن لصاً قد مدّ يده خلال هذه الأيام إلى مال، وقد كانت الأسواق كلها مطفأة الأنوار ليس عليها حارس ولا خفير، فهل قرأ أحد أو سمع أن بلداً في أوربة أو أمريكة أو المريخ يسير في اللصوص جياعاً ولا يمدون أيديهم إلى المال المعروض حرمة لأيام الجهاد الوطني؟ ولقد بقي الأولاد في المعسكر العام في المسجد (الأموي) أياماً طوالاً يرقبون وينظرون، فإذا فتح تاجر محله ذهبوا فأغلقوه. . . ففتح (حلواني) مشهور، فذهب بعض الأولاد فحملوا بضاعته، صدور (البقلاوة والنمورة والكنافة) إلى المسجد، وتشاوروا بينهم ماذا يفعلون بها؟ فقال قائل منهم: نأكلها عقاباً له!: اخرس ويلك، هل نحن لصوص؟ ثم أرجعوها إليه بعد دقائق وما فيهم إلا جائع!!
فهل قرأتم أو سمعتم أن صبيان باريز ولندن ونيويورك فعلوا مثله؟
وقد عمد الفرنسيون آخر أيام الإضراب إلى فتح المخازن قسراً، فكان أصحابها يدعونها مفتوحة ولا يقتربون منها، وفيها أموالهم التي تعدل أرواحهم.
و (التبرعات)؟ ألم يكن الناس يعطونها من غير أن يطلبها منهم أحد؟ ألم يكونوا يتسابقون إلى دفعها؟ ألم يرفض كثير من الناس أخذ (الإعانات) ويقولوا: أعطوها غيرنا ممن هم أحوج إليها منا، نحن نجد طعاماً هذا النهار!
لقد وقع هذا وشاهدته أنا مراراً، فأيّ وطنية أعظم من هذه الوطنية؟ وأيّ اتحاد أوثق من