للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هذا الاتحاد الذي تصبح فيه المدينة كلها أسرة واحدة؟

والبطولة والجهاد؟ ألم يفعل الشاميون الأفاعيل؟ ألم يهجموا على النار والحديد، ويقاوموا بالحجارة أروع وأبشع ما وصلت إليه حضارة الغرب من ضروب التقتيل والإهلاك والتدمير؟ ألم يفتح الأطفال صدورهم للرصاص؟ ألم يصمد الفتية العزل للجيش اللجب لا يزولون حتى يزول عن مكانه هذا الجبل، ثم يصدمونه صدمة الند للند، ثم لا ينجلي الغبار إلا عن حق يظفر أو شهيد يقتل، أو جريح يؤسر؟ ألم تلبث دمشق مدة الانتداب وهي في حرب ساحتها شوارعها وميادينها، لا تكاد تختفي منها الخنادق والأسلاك والرشاشات والدبابات حتى تعود فتظهر مرة أخرى، ولا تهدأ النار في ركن من أركانها حتى يندلع لسان النار في ركن آخر، ودمشق ثابتة على جهادها؟

ألم يشيّع الأمهات أبناءهن إلى المقبرة ضاحكات هاتفات؟ ألم يجاهد الطفل الصغير، والمرأة العجوز، والشيخ الفاني؟ ألم تمتلئ السجون بالأبرياء، ألم تضق المقابر بالشهداء؟

فهل تكلم تاريخ هؤلاء الفرنسيين في آدانهم؟ هل عوفوا لهذا الشعب حقاً، هل قدروا له تضحيته، هل رفعوا قبعاتهم عن رؤوسهم حينما كانت تجوز بهم مواكب شهدائه؟ هل خشعت قلوبهم حينما رأوا مسيل دمائه؟ لا. إنهم نسوا تلك الدعوى الكاذبة، دعواهم أن أجدادهم هم الذين أعلنوا حقوق الإنسان، وأنهم غسلوا بدمائهم صفحة الاستعباد والاستبداد، ونسوا ما كتبه روسّو وفولتير ومنتسكيو، وما قاله ميرابو وسيّيس ولافايّت، وما كان يكذب به الفرنسيون (أيام ثورتهم تلك) على الشعوب، إذ يعلنون أنهم نصراء المظلومين!

إني ما خططت هذه الكلمات لأؤرخ فيها جهاد الشام، فأنها تؤلف فيه الأسفار الضخام، ويخلد حديثه على طول المدى، وما ذكرت نبأ إضراب الخمسين، لأتقصى أخباره، وأجمع حوادثه، وإنما أردت أن أردّ كذبة مازلنا نسمعها حتى من الأصدقاء. . .

وما عظمة جهادنا في هذا الإضراب الشامل وحده؛ ولا في المظاهرات الدامية، ولا في القتال والنضال، بل العظمة في هذه التربية الوطنية العجيبة التي أثبتت الشعب العربي في الشام أنه بلغ فيها غاية الغايات، فكان في اتحاده واجتماعه على الفكرة الواحدة وتحمله الجوع والألم في سبيلها، وإقدامه على الموت من أجلها، مثلا للشعوب القوية الحرّة. وما ظنك بشعب فقير يدع في التاجر مخزنه، والعامل مصنعه، والطالب مدرسته، ثم يؤلفون

<<  <  ج:
ص:  >  >>