جميعاً صفاً واحداً، فينتزع حقه من أفواه البنادق، ومنافذ الدبابات ويسجل جهاده على ثرى وطنه بمداد دمه؟ وما ظنك بشعب تودع فيه المرأة ولدها، ثم تدفعه إلى الشوارع ليجاهد ويناضل، ثم ينعى إليها، ثم يحمل إلى دارها ميتاً، فتغسله بيدها، وتخرج في جنازته تهتف وتزغرد، ودموعها تسيل على خدّيها، وتدع المرأة أولادها بلا عشاء لتدفع المال للفقراء من أبناء الوطن. . .
أيقال لهذا الشعب إن استرد حريته، وجلا عن أرضه عدوّه: لقد جاءك الجلاء عفواً وبلا تعب؟
كلا. إنها ما جاهدت أمة مثل جهادنا، ولا حملت مثل ما حملنا. إنا قد رأينا الموت، وألفنا الفقر، واعتدنا الجوع، وأصبحت مدينتنا بلاقع، وأهلها مفجوعين، ونساؤها ثاكلات، أفيكثر علينا أن ننعم بالجلاء؟ وهل أخذناه بعد ذلك منحة من الإنكليز؟
كلا ثم كلا، إنا أخذنا حقنا بعون الله ثم بعزائمنا، ولو والله عاد فأستلبه منا أهل الأرض مجتمعين لقارعناهم عليه ونازلناهم حتى نستعيده كاملاً أو نموت دونه. وليس في الدنيا أقوى ممن يريد الموت، لأن الذي يريد الموت لا تخيفه وسائله ولا آلاته!
أستغفر الله! اللهم إنا نبرأ إليك من أن نعتمد على أنفسنا، فانه لا حول ولا قوة إلا بك، اللهم لك الحمد وبك التوفيق، ولا اعتماد إلا عليك.
اللهم لك الحمد على أن أحييتنا حتى رأينا هذا اليوم العظيم، وشهدنا جيشنا يعرضه زعيمنا تحت علمنا. . . فإن هذه الفرحة تغطي على تلك الآلام. . .
على أننا لم نعرض هذا الجيش الصغير الذي ربّاه الفرنسيون، وأعانهم على حرب هذا الوطن، ثم جاءنا تائباً فقبلنا من كرمنا توبته، واستغفَرَنا فغفرنا له حوبته، بل عرضنا الفصيلة الأولى من جيش العروبة، فرفرفت أعلامها فوق الصفوف، واجتمع فيها جنودها من أقطارها كلها. . . هذه بقية جيش الماضي الذي خففت له تحت كل نجم راية، وسما له في كل رَبْع علم، وكتب له في كل معركة ظفر، وهذه نواة جيش المستقبل الذي سيعيد بعون الله تلك الأمجاد.
لقد طالما رأيناه يعرض علينا هذا الجيش، يعرضه سادة الأمس كما يعرض المعلم الظالم عصاه على التلاميذ، والطاغية الجبار سيفه. يقولون لنا: انظروا إلى قوة فرنسا. . .