أن نهضة الألفاظ هذه صقلت الشعر، ونفت عنه الاضطراب، وقادته في طريق سوي انتهى به إلى شعر المعاني الأنيق، البراق الظاهر، الخالي من كل وهن وعيب سواء في لغته أو تركيبه
وحافظ إبراهيم اقتدى بالبارودي في حسن صياغته. فعمد إلى الشعر العالي النفس، المتين القالب، يشد به نفثاته. وكأنما ونحن نقرأه نسمع الفرزدق أو بشاراً، على أن هذا الشعر لم يكن موفقاً في معظم الأحيان بمعانيه مثله بألفاظه
فهناك ألفاظ مختارة تعيد إلى الأذهان عصر الجاهلية وما تلاه من أعصر أشرق فيها الأدب العربي وأزهر. ولا نكير أن الشعر في الجاهلية وصدر الإسلام والأعصر العباسية كان اشد خصباً في المعاني من شعر الانبعاث في مستهله، بيد أن النهضة لا تعتمد على الطفرة في مسيرها بل تمشي وئيداً إلى هدفها الأعلى. ولابد في مطلع كل نهضة أدبية من هزة لفظية تجتاح القوالب الرثة لتقيم الأدب الجديد على ركن لغوي سليم
والهزة اللفظية بدأها اليازجي الكبير والشدياق ونقلها إلى مصر اليازجي الأمين؛ فلا عجب إذا اعتمدها البارودي في بيانه وتلاه حافظ إبراهيم. وحافظ تأثر بالبارودي في شعره ومسلكه، وطمع في أن يرتقي يوما إلى مستوى هذا الشاعر العسكري. فالبارودي تربع في مقعد الوزارة، وحافظ شاقه أن يجلس يوماً في هذا المقعد وان يبلغ شأن زميله. وهو لما كان يرتدي ثوب ضابط في السودان ما انفك عن التودد إلى الشيخ محمد عبده. وكل قصده أن يمهد الشيخ له السبيل إلى الوزارة أو إلى منصب سام في الجيش. بيد أنه لم يقع منه على ضالته. فالشيخ كان يتناول رسائل حافظ ويطويها دون أن يكترث كل الاكتراث لهذا الضابط الوافر الآمال، العاقد عليه رجاءه. فيئس حافظ أو كاد، ودعا إخوانه إلى التمرد على الأوامر العليا، ومال عن الجيش إلى الاشتغال بالأدب في مصر. ومع كل ما لقي من فتور الشيخ محمد عبده ظل له على وفاء وولاء. وانتابته الفاقة وهو يرقب إنصاف الشيخ له وما تولى عمن تولى عنه.
وكان ميدان الأدب يضيق بالفرسان. فهناك شوقي ومطران وولي الدين وأحمد محرم والمنفلوطي. وظهر شوقي في القمة يزاحمه عليه خليل مطران. على أن حافظاً لم يدركه اليأس. فدفع في الحلبة جواده يبغي الوصول إلى القمة شأن شوقي نفسه. على أن ما توفر