للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

صمت صاحب الحق وتكلم غيره احتساباً، وحاشا أن أقول هنا لوجه الله، لأن الله لا يأمر بأن تنبش الحزازات وتحتفر الضغائن ويكشف عن السيئات دون الحسنات. أم نقول قولة أنطوني على جثة قيصر: (إن الشر الذي يعمله الناس يعيش من بعدهم، أما الخير فيدفن مع عظامهم؟!)

ولست أدري أي وصف توصف به هذه القضية لو تقدم بها خصم ثالث إلى مجلس حسبي ينصب لمحاكمة الأدباء؟

لتغير التاريخ

قرأت، كما قرأ غيري، قول بعض المؤرخين: (لو لم يكن كذا لتغير التاريخ). وهو قول ظاهره خلاب جميل؛ قول سمته الحق، ولكني لم أرى حقاً يراد به باطل أكبر من هذا الحق

قيل مثلاٌ: لو أن أنف (إقليو فطرا) كان أقصر قليلاً مما شاءت الطبيعة لتغير التاريخ. ولماذا؟ لأنها كانت بأنفها (الأقصر قليلا) تستطيع أن تغوي (أوكتافيانوس) كما أغوت (أنطونيوس) من قبله. وإن نظرة أولية في هذا الكلام تدلنا على أن ما فيه من الحق إنما هو بمثانة البرق الخلب، يبهر النظر ويأخذ باللب، ثم لا يترك في نفسك من الأثر إلا أثر اللمحة العابرة تستذكرها، ولكنك قلما تفكر فيها قليلاً. فمن ذا الذي أعلمنا أن أوكتافيانوس، قائد الرومان العظيم، وأول أباطرتهم العظام، كان يستغويه أنف دقيق ولا يستغويه أنف طويل؟ وعلى أية قاعدة نحكم بأن ذلك القائد كان على استعداد لأن يغوى، دق أنف الملكة المصرية أو كبر؟ أما الحق فأن أنف (إقليو فطرا) قد ظلم

وقيل أيضاً: لو لم يظهر نابليون لتغير التاريخ. وجملة ما في هذا القول من الحق في معتقدي أن التاريخ ما كان ليتغير إلا بأن يحذف منه اسم نابليون ليحل محله قائد آخر يفعل من الأشياء ويحدث من الأحداث ما قد أدت إليه أعمال نابليون بالذات، وما يصح عن نابليون يصح عن هينيبال وعن الاسكندر الأكبر وعن غيرهم من العظماء الذين نقول اعتباطاً إنهم غيروا التاريخ

لو صح قول القائلين: (لو لم يكن كذا لتغير التاريخ) لبدت الإنسانية في صورة عجماوات تضرب في فيافٍ وقفار، وتخبط في ظلمات مدلهمة خبط عشواء، تقبض على زمامها شهوات الأفراد وتقودها نزواتهم وانفعالاتهم، وتصرف أمورها أخيلة قلة من الناس في

<<  <  ج:
ص:  >  >>