العباسي أطول منها بين البارزين والعاديين في عصرنا حكمنا بأن البارزين في العصر العباسي أنبغ
هذا في رأيي أعدل في الحكم، وأقرب إلى الصواب؛ وإلا لم يعد أي نابغة من نوابغ العصر الماضي نابغة؛ فتلميذ المدارس الثانوية اليوم يعرف من قواعد النحو ما لم يكن يعرفه سيبويه، ويعرف من الطبيعة ما لم يكن يعرفه (نيوتن)؛ وتلميذ الهندسة اليوم يعرف من نظريات الهندسة ما لم يكن يعرفه إقليدس، ويعرف من الهندسة التحليلية ما لم يكن يعرفه ديكارت؛ وقد يكون من كتابنا اليوم من يجيد الكتابة خيراً من ابن المقفع والجاحظ، ولكن قيمة سيبويه ونيوتن وإقليدس وديكارت وابن المقفع والجاحظ ليست في مقارنتهم بأمثالهم في عصرنا، ولكن بمجموعة المتعلمين في عصرهم، ثم بموازنة ذلك في عصرنا على هذا النمط وهذا المنهج. فنقطة المقارنة هي مسافة البعد، لا مجموع المعارف ولا المقدرة الفنية أو السياسية أو الحربية. هذه هي نظريتي، فأنا أدعي أن العصر الحاضر تندر فيه البطولة ويقل فيه النبوغ بهذا المعنى
فلا يسألني الأستاذ بعد ذلك (ما كتاب الجاحظ الذي يعجز أبناء عصرنا عن الإتيان بمثله؟)
ولا يقل:(إن الموصلي وإبراهيم بن المهدي لا يبلغان شأو سلامة حجازي والسيد درويش وأم كلثوم)
ولا يذكر أن فوش وهندنبرج ومصطفى كمال أتوا من الواقع ما يفوق ما أتى به يوليوس قيصر وإسكندر المقدوني وجنكيزخان. . . الخ
فكل الذي ذكره الأستاذ حق، ولكنه لا ينقص ما ادعيت. قد كان ينقضه لو أنني ادعيت أن النبوغ هو إتيان الآخر بخير مما أتى به الأول؛ ولو ادعيت ذلك لكانت دعوى ظاهرة البطلان، ولكان ابني في المدارس الثانوية خيراً من رياضيي القرون الوسطى، فهو يعرف ما لم يعرفوا، وأنبغ من كل علماء البلاغة في العصر العباسي الأول لأنه يعرف من مصطلحات البلاغة ما لم يعرفوا؛ وهكذا في كل علم وكل فن
أخشى أن أكون في مقالي السابق لم أوضح القصد، ولم أجلِّ الغرض؛ أما الآن فأظن أن الأستاذ يوافقني بعد هذا التحديد على نظريتي؛ فعندنا كتاب قديرون يفوقون الجاحظ في كتبهم وفي تأليفهم، ولكنهم مع ذلك لم ينبغوا نبوغ الجاحظ، فقد كان بصيراً بين عميان،