للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وصاحياً بين سكارى، وفي القمة ومن حوله في القاع؛ ولكن كتابنا إن فاق منهم عدد قليل فحولهم كثير مقاربون؛ وإن نبغ في عصرنا قانوني فليس هو في السماء ومن عداه في الأرض كما كان الشأن في القرون الماضية، ولكنك ترى قانونيين مثله أو قريبين منه ومسافات البعد ليست واسعة

والعالم الآن متخم بالعلماء المتبحرين، والساسة الماهرين، والفنانين المبدعين، والحربيين القادرين، والصناع الحاذقين، ولكن من العسير جداً أن تعد منهم نوابغ لأن كل طائفة منهم تكاد تكون كأسنان المشط في الاستواء، وإن فاق واحد منها فتفوق قليل

ظهر نابليون فاستعبد الناس، وأجرى الدماء أنهاراً، وقلب الممالك رأساً على عقب، ودوخ الدنيا، فكان نابغة حقاً في ناحية؛ وبيننا الآن في عصرنا من هم أعلم منه بفنون الحرب ومن هم أقوى منه إرادة، وأبعد نظراً، ولكن من الصعب أن نسميهم نوابغ، لأن الناس ليسوا مغفلين كما كانوا أيام نابليون، ولأنه وحده كان هو القاهر المريد ومن حوله كانوا هم المنفذين المأمورين، فظهر ولم يظهروا، ونبغ ولم ينبغ بجانبه إلا قليل

لقد أتى عصرنا بالعجائب - كما يقول الأستاذ - (وأتى بالحقائق التي تشبه الخيال، وبالعبر التي تشبه نوادر الأمثال) ولكن كل ذلك - مع الأسف - لا يسمى نبوغاً بالمعنى الذي نقصده، لأنها قد كثرت حتى صارت مألوفة معتادة. هل إذا كثر الصناع الماهرون في بلدة سميتهم كلهم نوابغ؟ أم هل إذا كثر القانونيون البارعون في فرنسا سميتهم كلهم نوابغ؟ أو هل إذا كثر الفلاسفة المتعمقون في ألمانيا كانوا كلهم نوابغ؟ كلا ليس هذا هو مصطلحنا في الحياة، فالبلدة التي يكثر فيها الجمال يكون الجمال فيها عادياً مألوفاً، والحقل الذي تطول أكثر أشجاره وتنمو نمواً جيداً لا يمكننا أن نسبغ صفة التفوق عليها جميعاً وهكذا

فكثرة العلماء والفنانين في عصرنا الحاضر حجة لي لا عليَّ، وهي السبب في أننا لا نعدهم نابغين ولا أبطالا. ولو كان واحد منهم في الزمن القديم، وكان وحده هو البارز وهو السائد لكان وحده هو النابغ. فلو كانت المسألة مسألة تقدم عصرنا وتفوقه على الاعصر الماضية في سياسة جميع العلوم والفنون لوافقتك على ذلك كل الموافقة، ولكن المسألة هي مسألة النبوغ في العصر. فلو قارنت مزرعة بمزرعة وكانت كل أشجار إحدى المزرعتين ضعيفة وكل أشجار الأخرى قوية نامية لقلت بلا تحرج وبالبداهة إن المزرعة الثانية خير

<<  <  ج:
ص:  >  >>