من الأولى، وإنها تفوقها بمراحل؛ ولكن لو سئلت هل في المزرعة الثانية شجرة متفوقة على أقرانها لقلت بالبداهة أيضاً (لا) بملء فيَّ.
فعصرنا كذلك غني بكل مرافق الحياة، غني بالرجال في كل علم وفن، ولكن هذا الغنى سلبه النبوغ أيضاً، فكان عجيباً أن نرى الغني علة الفقر، والتخمة سبب الجوع.
لقد انقسم كل مجتمع إلى طوائف، وكان من نتائج المدنية الحديثة زيادة التخصص، فكما تخصص الصناع في جزء خاص من الصناعة تخصص علماء كل علم لفرع منه، فصار من المضحك أن يكون الرجل قانونياً في كل فروع القانون، أو طبيباً في كل فروع الطب، أو أديباً في كل فنون الأدب؛ ونشأ عن هذا التخصص توفر العدد الكثير على كل فرع من فروع العلم والفن وإتقانهم له؛ فحيثما تلفت وجدت العدد الذي لا يحصى في الأمم المتمدنة في كل نوع وكل فرع وكل صناعة. ونتج من ذلك أن ما كان يسمى نبوغاً في العصور الماضية أصبح اليوم شيئاً عادياً مألوفاً، فعز النبوغ وندرت البطولة - ولم نعد نرى أمثال الجاحظ الذي يؤلف في الأدب والاجتماع والجغرافيا والتاريخ والمذاهب الدينية والطب والنفس والحيوان والاقتصاد؛ وصار الاقتصار على مادة واحدة بل فرع من مادة بل جزء من فرع هو المنهج العلمي الصحيح، وهذا أغنى العلم وسهل للعدد الوفير أن يصل إلى شأو بعيد وفي الوقت نفسه كان سبباً لقلة النبوغ، فالنبوغ يكثر حيث يعز الشبيه
هذا من ناحية العلماء أنفسهم وكثرتهم، وهناك ناحية أخرى وهي ناحية الناس الذين يحكمون بالنبوغ، فلابد للنبوغ من نابغ وحاكم بالنبوغ، كما لا بد للجميل من ناظر ومنظور. فهؤلاء الناس أصبحوا - على العموم - مثقفين ثقافة عامة خيراً مما كانوا عليه في العصور الماضية. اتسعت معارفهم ودقت أنظارهم، وكان لهم أيضاً شبه تخصص، فمنهم من يميل إلى الأدب، ومنهم من يميل إلى العلم، ومنهم من يميل إلى الفن. وأصبح الفرق بينهم وبين العلماء المتخصصين أقل بكثير من الفرق الذي كان بين العامة والعلماء في العصور الماضية؛ وكذلك شأنهم في السياسة، بل شأنهم في السياسة خير من شأنهم في العلم، كل يعرف حقوقه وواجباته السياسية، ويستطيع أن يزن قادته وزناً صحيحاً إلى حد ما.
كل ذلك أنتج نتيجتين بعيدتي الأثر، أولاهما أنهم أصبحوا يتطلبون من النابغة ما يشبه