فقالوا النابغة. فقال من القائل:
أتيتك عارياً خلقاً ثيابي ... على وجل تظن بي الظنون
فقالوا النابغة. قال ذلك أشعر شعرائكم).
وإذن فزهير عندَه شاعر الشعراء، أما النابغة فهو شاعر غطفان!
وطبيعي أن يكون عمر مع هذا النظر الثاقب في الشعر قادراً على أن يلعب به كيف يشاء، ويوجهه حيث يريد شأن الذين يتبحرون في مادة من المواد فلا يكتفون بسردها على الوجه المعروف، بل يذهبون في تأويلها إلى مدى بعيد، لا يقدر على تفهمه واستنباطه غير من فهمها فهماً دقيقاً، فقد يأتي إليه البيت وهو صريح الدلالة على معنى خاص، فيستخرج أبو حفص منه معنى آخر كما يبين مما يلي:
كان بنو العجلان يفخرون بهذا الاسم، لقصة كانت لصاحبه في تعجيل قرى الأضياف، إلى أن هجاهم النجاشي فضجروا وسبوا به، واستعدوا عليه عمر، فقالوا يا أمير المؤمنين هجانا أبشع هجاء، فقال: ماذا قال؟ فأنشدوه:
إذا الله عادى أهل لؤم ورقة ... فعادى بني العجلان رهط بن مقبل
فقال عمر: إنما دعا عليكم ولعله لا يجاب، فقالوا إنه قال:
قبيلته لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
فقال عمر: ليت آل الخطاب كذلك، قالوا فإنه قال:
ولا يردون الماء إلا عشية ... إذا ورد الوارد آخر منهل
فقال عمر: وما في ذلك، هذا أقل للزحام، قالوا فإنه قال:
تعاف الكلاب الضاريات لحومهم ... وتأكل من كعب بن عوف ونهشل
فقال عمر: كفى ضياعاً من تأكل الكلاب لحمه، قالوا فإنه قال:
وما سمى العجلان إلا لقولهم ... خذ القعب واحلب أيها البد واعجل
فقال عمر: كلنا عبد، وسيد القوم خادمهم).
فهذه أبيات كلها سب صريح ولكن عمر يتصرف فيها كما شاء له افتنانه، ولقد كان لا يخفى عليه - وهو الباقعة الألمعي - ما تتضمنه من هجو لاذع، ولكنه كان كما يقول صاحب العمدة: (يدرأ الحدود بالشبهات).