ولقد كان الفاروق على علم تام بشعراء عصره يستطلع أخبارهم ويستفسر عن أحوالهم، وربما ذكر له الشاعر فجعل يسأل عن كنيته ولقبه وأوصافه الجسمية والخلقية وكلأنه يريد أن يفهم شعره على ضوء حياته، قام مرة يصلي الصبح فوجد رجلاً قصير القامة أعور متنكباً قوساً، وبيده هراوة، فقال له: أنت متمم ابن نويرة؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: هكذا وصفت لي، فأنشدني مراثيك في مالك أخيك فأخذ ينشده حتى وصل إلى قوله:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن نتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا ... على طول وصل لم نبت ليلة معاً
فقال: عمر والله هذا هو التأبين، ولو وددت أني أحسن الشعر فأرثي أخي زيداً بمثل ما رثيت به أخاك، فقال متمم: لو أن أخي يا أمير المؤمنين مات على ما مات عليه أخوك من الإيمان ما رثيته، فقال عمر: ما عزاني أحد عن أخي بمثل ما عزاني به متمم)
ونحن لو فتشنا جميع مراثي متمم هذا، ما وجدنا أحسن من البيتين اللذين وقف عندهما الفاروق، وفي ذلك الدليل القوي على سلامة ذوقه، ودقة شعوره بمعاني الكلام. ولقد جاء بعد عمر من هام بهذين البيتين من أئمة الأدب فكتبهما على قبر أخيه
على أن أبا حفص كان ينفعل انفعالاً شديداً يظهر أثره في وجهه حين يسمع شعراً يقال في مناوأة الدعوة المحمدية فقد أسكت من أنشده شعر أمية بن الصلت في رثاء قتلى بدر، وكأنه يربأ بالشعر أن ينحط إلى درجة تجعله يحيد عن الحق ويميل إلى الباطل. ولطالما توعد من يقول شعراً في هذا الموضوع البغيض، حتى إن كراهته لأعداء الرسالة من الشعراء ظلت كامنة في قلبه برغم إسلامهم بعد ذلك، فقد كان أبو شجرة بن الخنساء شاعراً مثلها وقد لحق بأهل الردة وأخذ يقول الشعر في تحريضهم على أصحاب محمد وكان مما قاله:
فروّيت رُمحي من كتيبة خالد ... وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
ولما أخفق في تحريضه ورأى الناس يرجعون إلى الإسلام رجع إليه صاغراً، وقبل منه ذلك أبو بكر، وعفا عنه فيمن عفا عنهم. فلما كانت خلافة عمر، قال: يا أمير المؤمنين أعطني فإني ذو حاجة. فقال عمر: من أنت؟ فلما عرفه صاح: أي عدو الله! ألست القائل:
فروّيت رُمحي من كتيبة خالد ... وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
ثم جعل يعلوه على رأسه، فطار عدواً إلى ناقته، وارتحل عائداً إلى قومه من بني سليم،