وعمر يكرر البيت في تهكم واستهزاء.
ولقد كان برغم صرامته في الحق يعطف على الشعراء الجيدين. وقصة النجاشي السابقة تؤكد لنا هذا المعنى أبلغ تأكيد، وحسبك أن الحطيئة كان يلقى منه - على سلاطة لسانه وقبح هجوه - كل تسامح محمود، فقد حبسه عمر رضي الله عنه حين هجا الزبرقان بن بدر فنظم عدة أبيات عاطفية يستميل بها قلبه ومنها:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر
فرق له عمر، وأطلقه من سجنه ومنحه دراهم كثيرة على ألا يتعرض لهجو المسلمين.
ولقد شاع في الناس حبه للشعر وتأثره به أيما تأثر فعمد كثير من أصحاب الحاجات إلى عرض مطالبهم عليه في أسلوب شعري فكان يردهم أحسن رد، قال عثمان ابن أبي العاص: كنت عند عمر فأتاه شيخ كبير يسمى أمية بن حرثان فأنشده:
لمن شيخان قد نشدا كلابا ... كتاب الله لو قبل الكتابا
أناديه فيعرض في إباء ... فلا وأبى كلاب ما أصابا
فإنك وابتغاء الأجر بعدى ... كباغي الماء يتبع السرابا
تركت أباك مرعشة يداه ... وأمك لا تطيق لها شرابا
إذا غنت حمامة بطن وج ... على بيضاتها ذكرت كلابا
فقال عمر: مم ذاك يا أخا العرب؟ فقال: هاجر كلاب إلى الشام في جيش الحرب، وترك أبوين كبيرين ولا من عائل لهما: فبكى عمر حتى ما نتبين كلامه ثم كتب إلى يزيد بن أبي سفيان في أن يرحله، فقدم عليه، فقال عمر: بر أبويك إلى أن يموتا؟
وكان لا يطوف في شارع أو زقاق ويسمع شعراً ينشد إلا وقف يتسمعه حتى ينقطع الصوت، وله في ذلك غرائب عجيبة، سمع أعرابية تنشد:
فمنهن من تسقى بعذب مبرد ... نقاخ فتلكم عند ذلك قرت
ومنهن من تسقى بأخضر آجن ... أجاج ولولا خشية الله فرت
فعلم ما تريد، وبعث إلى زوجها فوجده متغير الفم، فخيره بين خمسمائة درهم أو جارية من الفيء، على أن يطلق زوجته، فاختار الدراهم وطلقها، وهذان البيتان لا يدرك مرماهما