هذه هي نظرية النبوة في حقيقتها العلمية والفلسفية، وظروفها وأسبابها الاجتماعية، ومصادرها وأصولها التاريخية، ونعتقد أن الجزء الطريف والمبتكر في فلسفة الفارابي. حقاً إنها تعتمد على أساس من علم النفس الأرسطي، إلا أنها في مظهرها الكامل أثر من آثار تصوف الفارابي ومعتقداته الدينية. فأن الاتصال بالعقل الفعال سواء أكان بواسطة لتأمل والنظر أم بواسطة التمثيل هو قمة الصوفية الفارابية. ومن جهة أخرى يجب أن نلاحظ أن الفارابي متمش هنا مع مبدئه في التوفيق بين الفلسفة والدين ومتأثر بتعاليم الإسلام تأثره بأفكار أرسطو. فأن العقل الفعال الذي هو مصدر الشرائع والإلهامات السماوية في رأيه أشبه ما يكون بالملك الموكل بالوحي الذي جاءت به نظرية الإسلام: كل منهما واسطة بين العبد وربه وصلة بين الله ونبيه. والمشرع الأول والملهم والموحي الحقيقي هو الله وحده. وبهذا استطاع الفارابي أن يمنح الوحي والإلهام دعامة فلسفية، ويثبت لمنكريهما أنهما يتفقان مع مبادئ العقل ويكونان شعبة من شعب علم النفس.
غير أنه قد يعترض عليه بأنه يضع النبي في منزلة دون منزلة الفيلسوف. فأن وصول الأول عن طريق المخيلة في حين أن الثاني يدرك الحقائق الثابتة بواسطة العقل والتأمل، وليس هناك شك في أن المعلومات العقلية أفضل وأسمى من المعلومات المتخيلة؛ ولكن الفارابي فيما يظهر لا يأبه بهذه التفرقة ولا يعيرها أية أهمية؛ وسواء لديه أن تكون المعلومات مكتسبة بواسطة الفكر أم بواسطة الخيالة، ما دام العقل الفعال مصدرها جميعاً، فقيمة الحقيقة لا ترتبط بالطريق الذي وصلت إلينا منه، بل بالأصل الذي أخذت عنه؛ والنبي والفيلسوف يرتشفان من معين واحد ويستمدان علمهما من مصدر رفيع؛ والحقيقة النبوية والحقيقة الفلسفية هما على السواء نتيجة من نتائج الوحي وأثر من آثار الفيض الإلهي على الإنسان عن طريق التمثيل أو التأمل.
على أن الفارابي بعد أن فرق في كتابه: آراء أهل المدينة الفاضلة بين النبي والفيلسوف من ناحية الوسائل التي يصلان بها إلى المعرفة عاد فقرر في مكان آخر أن الأول، مثل الثاني، يمكنه أن يعرج إلى مستوى الكائنات العلوية بواسطة العقل. فأن فيه قوة فكرية مقدسة تمكِّنه من الصعود إلى عالم النور حيث يتقبل الأوامر الإلهية فلا يصل النبي إلى