الوحي عن طريق المخيلة فحسب، بل فيه من قوى عقلية عظيمة. يقول الفارابي:(النبوة مختصة في روحها بقوة قدسية تذعن لها غريزة عالم الخلق الأكبر كما تذعن لروحك غريزة عالم الخلق الأصغر فتأتي بمعجزات خارجة عن الجبلة والعادات؛ ولا تصدأ مرآتها ولا يمنعها شئ عن انتقاش ما في اللوح المحفوظ من الكتاب الذي لا يبطل، وذوات الملائكة التي هي الرسل، فستبلغ مما عند الله إلى عامة الخلق).
وإذا كان في مقدور النبي أن يتصل بالعقل الفعال بواسطة النظر والتأمل فأن النبوة تصبح ضرباً من المعرفة يستطيع الناس على السواء الوصول إليه. فبتأثير العقل الفعال نبحث ونفكر وندرك الحقائق العامة، وبتفاوت أثره فينا تختلف درجاتنا ويفضل بعضنا بعضاً، وإذا ما عظم إشراقه على واحد منا سما بنا إلى مرتبة الإلهام والنبوة. وعلى هذا هو الذي دفع علماء الكلام إلى أن يأخذوا على الفارابي ومن جاء بعده من فلاسفة الإسلام ميلهم إلى عد النبوة أمراً مكتسباً. مع أن أهل الحق، فيما يصرح الشهرستاني، يقولون (إن النبوة ليست صفة راجعة إلى النبي، ولا درجة يبلغ إليها أحد بعلمه وكسبه، ولا استعداد نفسه، يستحق به اتصالاً بالروحانيات، بل رحمة يمن الله بها على من يشاء من عباده). ونحن لا ننكر أن موازنة الفارابي بين النبي والفيلسوف تدع باب النبوة مفتوحاً للجميع، كما أن الفلسفة ليست مقصورة على طائفة دون أخرى. إلا أنه يخيل إلينا أن الفلسفة في رأي الفارابي ليست سهلة المنال بالدرجة التي تبدو لأول وهلة، فلكل أن يتفلسف، ولن يحظى بالفلسفة الحق إلا أفراد قليلون؛ وفوق هذا فالفارابي يقرر أن النبي ينعم بمخيلة ممتازة أو قوى قدسية خاصة، ويغلب على ضننا أن هذه القوة القدسية وتلك المخيلة فطريتان في رأيه لا مكتسبتان وإن كان هو نفسه لم يصرح بذلك. ونحن نسلم جميعاً بأن في نفس النبي ومزاجه كمالاً فطرياً استحق به النبوة، وسما بسببه إلى الاتصال بالملائكة وقبول الوحي. والأنبياء هم صفوة الناس وخيرة الله في خلقه:(الله يصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس) يقول الشهرستاني: (فكما يصطفيهم من الخلق قولاً بالرسالة والنبوة يصطفيهم من الخلق فعلاً بكمال الفطرة ونقاء الجوهر، وصفاء العنصر، وطيب الأخلاق وكرم الأعراق. فيرفعهم مرتبة مرتبة، حتى إذا بلغ أشده، وبلغ أربعين سنة وكملت قوته النفسانية وتهيأت لقبول الأسرار الإلهية بعث إليهم ملكاً وأنزل عليهم كتاباً).